أسئلة الفلسطينيين عن الانتخابات المفترضة
عدلي صادق
من توافقوا على إجراء الانتخابات دون وجود مؤسسات دستورية، هل يمكنهم أن يخاطروا بإجراء انتخابات نزيهة ويسلموا الحكم لغيرهم في حال فوزهم، وإذا نام الطرفان في سرير واحد فهل ستكون أحلامهما واحدة؟
كل طرف يبحث عن تجديد شرعيته
في مناخ الحديث المتواتر عن انتخابات فلسطينية مفترضة، قيل إن فتح وحماس توافقتا على إجرائها، حيث ذهب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى أبعد وأدهى، في الإجهاز على استقلالية القضاء، بإصدار قرارات إقصائية تحت عنوان “التعديل”. وقد نددت نقابة المحامين الفلسطينيين في رام الله بما جاء في تلك القرارات، باعتبارها تدبيرا، حسب وصف د. أحمد الأشقر، نائب رئيس نادي القضاة الفلسطيني، “لجعل رقاب القضاة تحت سيف العقوبات المألوفة، كالإحالة إلى التقاعد والعزل والندب والاستيداع، ما يشكل مخالفة دستورية جديدة وعوارا دستوريا لا جدال فيه”.
ومعلوم أن أي انتخابات ذات سياق صحيح، لا تمضي إلا في موازاة قضاء مستقل. وبالفعل، تبدى العوار جليا كون الإحالات إلى التقاعد والتعيينات الجديدة، جاءت بذريعة وصول العديد من القضاة إلى سن التقاعد، بينما الرئيس الانتقالي لمجلس القضاء الفلسطيني الذي يوالي عباس، قد بلغ الثمانين. وتساءل العديد من المحامين من قيادة نقابتهم، عن المغزى من صدور هكذا قرارات من شأنها المساس بجوهر السلطة القضائية، في الوقت الذي ينتظر فيه الفلسطينيون مرسوم إجراء انتخابات عامّة نزيهة!
وكان لافتا أن الطرف الشريك لعباس في التوافق على إجراء الانتخابات وهو حركة حماس، لم ينبس ببنت شفة اعتراضا على قرارات رئيس السلطة التي أجهزت على ما تبقى من استقلالية للقضاء الفلسطيني. فإن كانت حماس طوال مرحلة الخصومة التي لمّا تنته بعد، لم تر في قضاء عباس قضاءها، فإن ما جرى لقضاء هذا الأخير عند عتبة الانتخابات المفترضة، سيجعل الطرف الثاني ملزما بمنظومة قضائية فصلت على مقاس رئيس السلطة، وذلك تفصيل يؤشر على واحدة من خلفيات التوافق، ويعزز شكوك الفلسطينيين بأن هدف الانتخابات في حال إجرائها هو استنساخ السلطتين في الضفة وغزة، من خلال التحكم في مسار العملية الانتخابية، بدءا من مرحلة الترشح حتى إعلان النتائج، مرورا بعملية الاقتراع.
الطرفان اللذان توافقا على إجراء العملية الانتخابية يخشيان الصناديق، ولم يعترض أيّ منهما على ما تداولته بعض الأصوات، عن احتمالات تشكيل قائمة مشتركة لهما حصرا، على الرغم من كل ما في مثل هذا التشكيل من غرابة، وما يمثله من إطاحة بمبدأ التنافس بين الرؤى والمنهجيات. فكيف يتعاضد طرفان، قال كل منهما ضد الآخر كل ذميمة، وظل السجال بينهما على القضايا الأساسية في الاجتماع والسياسة والعقيدة الأمنية واللغة نفسها؟
يصح القول ـ ودون معلومات ـ أن الطرفين لم يستشيرا خبيرا حول جدوى هذا التدبير الانتخابي الذي يلامس التحايل. فقد قرر عباس مسبقا، أن تُجرى الانتخابات حسب النظام النسبي لكي يصبح المشهد الفلسطيني دائرة واحدة، تتنافس فيها عناوين وقوائم، ولا مجال فيه للترشح الفردي. وقد تجاوز أصحاب التدبير عن كون الانتخابات حسب النظام النسبي، تتيح للأفراد مع عشائرهم أن يتحالفوا مع عشائر مقربة منهم لتشكيل قوائم، طالما أن خوض الغمار متاح للقوائم.
في هذا السياق، كان للمواطنين الفلسطينيين أسئلة كثيرة، كان أطرفها وأكثرها شيوعا هو السؤال: هل يمكن لهؤلاء الذين أمسكوا بمقاليد الأمور في الضفة وغزة، أن ينتجوا نظاما سياسيا ديمقراطيا سيتعرضون فيه لخطر المساءلة والإطاحة؟ أو هل يمكن لمن توافقوا على إجراء الانتخابات دون وجود مؤسسات دستورية، أن يسلموا الحكم لغيرهم في حال فوزه، أو في حال تكتلت القوى الاجتماعية لإنهاء مرحلتهم عبر صناديق الاقتراع؟ وهل يخاطر الطرفان بإجراء انتخابات نزيهة؟ وإذا ناما في سرير واحد، فهل ستكون أحلامهما واحدة؟
إن هذا الجديد اللافت، الذي طرأ على صعيد الموضوع الانتخابي في فلسطين، يخالف الأعراف الشائعة في الحياة السياسية للأمم، حيث يتنافس الطامحون إلى الحكم ببرامج مختلفة. معنى ذلك أن هذا الجديد اللافت يقتصر على أمر وحيد وحقيقي لا ينطبق عليه وصف برنامج، وهو خوض الانتخابات، كي يجدد كل طرف شرعيته أو يمنح الشرعية لأشخاصه ورموزه، مصمما على البقاء ليس في المشهد وحسب، وإنما في خندقه الأمني في المساحة التي يمتلك فيها القدرة على الإكراه. فلم يفكر الطرفان في حق المجتمع في تفويض من يحكمون. فكل طرف يحكم بقوة الأمر الواقع وفي يده السلاح، ولكل طرف ذريعته، ولا معنى ولا أساس للقول إن القائمة المشتركة، تعني برنامجا مشتركا تنفذه حكومة منسجمة.
إسرائيل من جانبها، ترى أن طموح حماس إلى الاستمرار في الحكم، معناه الموضوعي أنها تهيأت للانضمام إلى نادي الأنظمة. فالضامنون للعملية الانتخابية المفترضة في الإقليم، يريدون احتواءها مثلما جرى احتواء سياسة منظمة التحرير الفلسطينية، عندما تلقت الإشارة الخضراء لدخول المحافل الدولية، بدءا من منحها العضوية الكاملة في جامعة الدول العربية بعد حرب أكتوبر 1973 (قبلها لم تكن عضوا كاملا)، مرورا بانضمامها إلى المنظمات الإقليمية كعضو، وصولا إلى تأسيس بعثتها إلى الأمم المتحدة، باسم فلسطين.
كان ذلك كله، بشفاعة التأهل لمسار سياسي يقبل التسوية ويتعاطى مفرداتها. وبالطبع كانت لإسرائيل حسبة أخرى مضبوطة على إيقاع الزمن، وهي تطمح إلى ضم الأراضي المحتلة، وتتقدم على هذه الطريق عقدا بعد عقد. فالزمن عند إسرائيل مُوزع ومحددة أهدافه، أما الزمن عند القيادات الفلسطينية فإنه يمضي بلا بوصلة، وليس أدل على ذلك من سلخها عشر سنوات، وهي تراوح في مربع الخصومة السخيفة، والخطابات الفارغة والرقاعة السياسة وبيع الأوهام!
جدير بالقول، إن الجزء الأكبر من المجتمع الفلسطيني بات يتطلع إلى استعادة حياته الطبيعية وإلى التعافي، لكي يشكل كتلة اجتماعية صلبة قادرة عن صون ثقافتها وقضيتها، ليس بالمشروعات السياسية الفاشلة، ولا بالخطاب الطوباوي “المزلزل” عن التحرير من النهر إلى البحر، وإنما من خلال تجذره في أرضه، متماسكا وحرا ومستحوذا على حقه في اختيار ومحاسبة من يحكمونه. فعناصر القوة لا يجلبها محنك أو متذاك أو ذو خطاب مرعد.
فمن سنن الحياة ومألوف التجارب، تتحقق القوة من خلال عملية تاريخية لمجتمع بلا كوارث، تبدأ مفاعيلها بتحاشي الرعونة التي تضيّع القضية ومكتسبات المجتمع، وتستمر بالعزم على النهوض وتعميق مدركات المظلومية الفلسطينية في أذهان الأجيال الجديدة، لكي تظل القضية ضاغطة على الضمير الإنساني. فليس أمام الفلسطينيين ما يفعلونه الآن غير ذلك. أما الذين يتوافقون على تجديد شرعيات أشخاصهم، واستنساخ تجاربهم، فإن برنامجهم الوحيد المختصر، هو الاستمرار في الحكم، ولو بإقصاء المجتمع، وبلا مؤسسات دستورية، وبلا جدارة.
كاتب وسياسي فلسطيني