أقدم حرب مياه في التاريخ
قيس حسين رشيد
في دويلات المدن السومرية وعلى حافة الألف الثالث قبل الميلاد شكلّت المياه وقنواتها عصب الحياة وسبب ديمومتها وأحد رموز السيادة الناشئة آنذاك. وكان من اهم واجبات حاكم دويلة المدينة المسمى (إنسي) هو تنظيم حياة الرعية وزراعتهم المعتمدة كلياً على الري وليس المطر كما في مدن الشمال.
إِلَّا ان هذه النعمة الالهية التي مدّت أسلافنا بالغذاء والنماء والطمأنينة هي ذاتها مصدر قلقهم الأزلي وفيها ومنها تكمن الاخطار سواء بالفيضان او بجلب مطامع الأعداء إذ كانت تمثل السبب الرئيس لنشوء صراعات التاريخ الاول في سومر. وتُعد حرب المياه بين دويلة مدينة (أوما) التي هي الان موقع چوخة الواقع في ناحية الفجر وبين دويلة مدينة (لگش) المعروفة حالياً بتل (الهبا) قرب قضاء الشطرة أقدم حرب مياه عرفها التاريخ البشري.
تقع (لگش) في تلك الفترة وسط اقليم خصب تتخلله قنوات الري التي تأخذ مياهها من الفرات مما وفّر لها ازدهاراً اقتصادياً جعل منها سلالة مهمة وقوية تحت حكم مؤسسها (اور نانشه) واولاده وأحفاده الذين توارثوا الحكم من بعده لأكثر من مائة عام.
اما (أوما) فهي الى الشمال من (لگش) وعلى ضفاف نفس القناة المائية التي يعتمدون عليها في زراعتهم وقد كان لهذا الموقع أثره في تدّخل (أوما) بالحصص المائية التي تنتظرها (لگش) مما أشعل صراعاً طويلاً بين الدويلتين دونت بعض تفاصيله ألواح الطين المكتوبة بالخط المسماري مثلما خلّدته منحوتة (أي أنّاتم) احد حكام مدينة لگش والتي تُعرف لدى متخصصي تاريخ الفن بمسلة العقبان نسبة الى المشاهد التي نُقشت عليها وهي تمثل صراع النسور على اشلاء القتلى بعد المعركة التي انتصر فيها (أي أناتم) على جيش مدينة (أوما) وذلك في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد كما ذكر هذا الحاكم في نصوصه المكتوبة ما فعله بأعدائه وكيف انه قتل منهم 3600 مقاتل وان المعبد الرئيس لمدينة لگش قد جهّز جيشه بمئات المقاتلين لمساعدته في حربه المقدسة . ويبدو ان صراع المياه هذا استمر بين الدويلتين كرّاً وفرّاً حتى عهد حاكم لگش المدعو (أنتمينا)
الذي أمدتنا نصوصه المكتوبة بتفاصيل ذلك الصراع ومنها مدونة تاريخية مهمة ذكرت أحداثاً سبقت عصره بأربعة اجيال وتظمنت اول اتفاقية تحكيم على المياه حيث تذكر وبحسب الفكر الديني السومري ان معبوديّ الدويلتين المتنازعتين أتفقا بأمر من كبير المعبودات السومرية (إنليل) على تسوية هذا الصراع المتجذر وكان الحكم في هذه التسوية الملك (ميسيلم) ملك كيش ، فثّبت (ميسيلم) الحدود بينهما وأقام عندها مسلّة حجرية ووضع ضوابط التعامل مع جريان النهر والمحافظة على الحصص المائية لكليهما. ويبدو ان هذا الاتفاق ايضاً لم يصمد طويلاً امام فتنة الماء وفكرة السيطرة عليه .
لقد شكّل الماء مفهوماً مقدساً في الفكر الرافديني القديم حيث رافق أساطيرهم وملاحمهم ولعل ما جاء في قصة الخليقه البابلية كافياً للدلاله على تلك المكانه ففي هذه القصة المعروفة بـ (عندما كان في العلا) كانت المياه العذبة أحد ركنيّ الحياة مع المياه المالحة والتي أنتجت بأتحادهما الجيل الاول من المعبودات في تفصيل طويل وممتع ينتهي بخلق السماء والأرض بحسب ما كان يعتقده السومريون، كما جعل العراقيون القدماء للمياه العذبة معبوداً متفرداً أسموه (إنكي) أو (أيا) وهو يمثل القوة الخارقة في المياه العذبة سواء في الأنهار او المستنقعات او الأمطار وقد كان أقدم معبد له في مدينة أريدو وذلك منذ الألف الرابع قبل الميلاد.
ويا لها من مفارقة تاريخية في ان يستمر قلقنا المتوارث حول المياه وعطائها حتى الوقت الحاضر بعد اكثر من خمسة ألاف سنة من الصراع الاول حولها وهذه المرّة مع جيران بلاد الرافدين الأزليين وهو قلق مشروع في ضلّ سعي جيراننا إقامة مشاريع السدود والخزانات دون اي حساب لحق العراق التاريخي والانساني في مياه دجلة وروافده والفرات وحتى شط العرب ، الأمر الذي يستدعي تحرك حكومي جاد في التفاوض والتقاضي عبر الطرق الدولية المعروفة في حالة النزاعات بين الدول المتشاطئة قبل ان يفرض الأخر سياسة الأمر الواقع التي يسعى إليها في وضح النهار دون اي رادع.