خذوا عراقكم الجديد معكم وارحلوا

بقلم فاروق يوسف تموز/يوليو 07, 2021 407

 

خذوا عراقكم الجديد معكم وارحلوا

مثقفو الاحتلال استنفدوا أساليبهم من أجل فرض العراق الجديد غير أنهم لم يتمكنوا من الانتصار على الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها، فالعراق الجديد هو عراق الفقر والبطالة والتمييز والطائفية والقهر والكراهية.
وجوه سئم العراقيون رؤيتها
مع اليوم الأول من أيام الاحتلال الأميركي غزت العراق ثقافة جديدة قائمة على فكرة التنكّر للعراق التاريخي وعلى القطيعة مع المحيط العربي.
كانت تلك الفكرة جزءا من ثقافة الاحتلال التي تم تكليف عدد من المثقفين العراقيين بنشرها وترويجها بين صفوف المثقفين أولا ومن ثم توزيعها على شكل جمل قصيرة مثل حبوب دواء بين الجماهير.
كان هناك عراق جديد ينتظر الجميع. عراق سيكون افتراضيا إذا ما أخذنا في الاعتبار المسافة الزمنية التي تفصلنا عن سنة الاحتلال الأولى. كان ذلك العراق هو العراق المحرّر. سؤال سيكرّره العراقيون ببلاهة يغلب عليها التفكير المعتوه "احتلال أم تحرير؟" وسيظل البعض يطلق على واقعة الاحتلال تسمية "التغيير" هربا من الاعتراف بالحقيقة.
لا يشبه العراق نفسه. ذلك هو العراق الذي يتغيّر بعناصره ومزاج ناسه وعصف عواطفه التي تنبعث من داخله الذي يسكنه العراقيون المولعون بالشغب الروحي
سينسى العراقيون سؤال التحرير والاحتلال وسط سيل الأزمات التي ضربتهم. وهي أزمات عاشوها وهم يقفون على حافات الموت قتلا أو كمدا أو جوعا. سينسى العراقيون كل شيء يجعلهم على صلة بماضيهم، كما لو أنهم صاروا يخشون الالتفات إلى الوراء كما أنهم كرهوا النظر في المرآة لئلا يروا أنفسهم في حلّتهم الجديدة وهي حلّة زائفة أو ينظروا إلى وجوههم التي لم تعد تذكّر بوجوههم الحقيقية. غابت وجوههم كما غابت كل مظاهر وأسرار الحياة.
كانت هناك خدعة مبيّتة. بلد كُتب عليه الموت ليكون حاضنة لبلد لا حياة له. بلد سيُقدر له أن يكون آخر. ذلك هو البلد الذي سيعادي تاريخه وسيكتب مؤرخو الاحتلال أن ما جرى في العراق لم يجر في أي بلد سبقه إلى محنته. أليست الخيانة ظاهرة إنسانية عالمية؟
وقف عراقيون طوابير من أجل أن يعرفوا بأنفسهم كونهم خونة. ما هذه الوظيفة التي لا يتمكن إنسان من مقاومة الاشمئزاز منها والشعور بالقرف في مواجهتها. أكان تطبيع الخيانة قرارا أميركيا؟ بعد تطبيع الخيانة كان على العراق الجديد أن يشهد أسوأ لحظات تاريخه وهي اللحظة التي بدأ فيها تطبيع الفساد بعد أن أُطلقت يد نوري المالكي في التصرف بأموال العراق التي بدت كما لو أن خزائنها لا تفرغ.
كان العراق الجديد يتشكل من لحظة نسيان العراق التاريخي. لم تعد بلاد الرافدين التي ارتبطت بالمدن التاريخية وفي مقدمتها بغداد وأور والكوفة والبصرة والموصل موجودة. الوادي الذي يجري فيه النهران الخالدان دجلة والفرات لم يكن إلا كذبة جغرافية. ذلك ما صار يردده دعاة العراق الجديد الذين لا يُعقل أنهم لم يدركوا حجم فشلهم في تثبيت مفردات ثقافتهم التي هي ثقافة المحتل التي كُلفوا بالترويج لها.
"لقد فشل الخونة في تطبيع خيانتهم"؟
ما هذا الحكم المتفائل. ولكنّ عراقا جديدا لم يولد بعد أكثر من ثماني عشرة سنة من اللعب بالأوراق وخلطها. حتى بعد أن تم تحطيم آثار النمرود وسرقة آثار أور واللعب بمحتويات المتحف العراقي وإهانة شارع الرشيد من خلال تحويله إلى مزبلة وقطع رأس أبي جعفر المنصور لا يزال هناك عراق صعب. يُخيّل إلينا أنه لم يمت.
لقد استنفد مثقفو الاحتلال أساليبهم من أجل فرض العراق الجديد غير أنهم لم يتمكنوا من الانتصار على الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها. فالعراق الجديد هو عراق الفقر والبطالة والتمييز والعزل والطائفية والقهر والكراهية. هو عراق يظل مقيما على القشرة ولا يمد جذوره في الأرض التي ترك الأجداد في أعماقها أنهارا من العاطفة. تلك عاطفة لا يمكن اللعب بمفردات أبجديتها. كل مفردة هي حكاية مثلما كل درب من دروب بغداد هو نهر يكشف عن وجوه الأقرباء الذين تركوا آثار أقدامهم ماثلة كما الأغنيات.
سينسى العراقيون سؤال التحرير والاحتلال وسط سيل الأزمات التي ضربتهم. وهي أزمات عاشوها وهم يقفون على حافات الموت قتلا أو كمدا أو جوعا
لا يشبه العراق نفسه. ذلك هو العراق الذي يتغيّر بعناصره ومزاج ناسه وعصف عواطفه التي تنبعث من داخله الذي يسكنه العراقيون المولعون بالشغب الروحي. بلد الملل والنحل. البلد الذي اخترع المذاهب الدينية ولعب بالعقول بخفة وخفاء إخوان الصفا. البلد الذي اخترع الجماعات السرية التي تقاوم من أجل الإعلاء من شأن العقل هو الذي يُقاوم من أجل أن لا يخسر شيئا من مساحة تاريخه.
كان هناك دائما عراق جديد. عراق هو نفسه وهو دائما ذلك العراق الآخر الذي يجيء من الغيب. السد الذي تصطدم به نفايات الاحتلال التي لن تتمكن من تحريك سنتمتر واحد منه من مكانه. لقد تواطأ الكثيرون مع فكرة الخيانة وخيالها غير أنهم لم يربحوا إلا الخراب. العراق الجديد هو صورة قبيحة عن بلد لا وجود له. لذلك يتمنى العراقيون لو أن عملاء المحتل الأميركي أخذوا عراقهم الجديد معهم ورحلوا.
فاروق يوسف
كاتب عراقي

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه