أفغانستان بيت من ورق.. نقطة الارتداد للاستراتيجات الغربية
لهيب عبدالخالق
في ساعات لم تكن بحسبان أحد، سقطت افغانستان مجددا ولكن هذه المرة بيد تنظيم "طالبان" المعروف بأنه من التنظيمات الارهابية الشرسة، ويوصف بأنه قرين تنظيم "القاعدة"، والذي شنت الولايات المتحدة وحلفاءها الحرب عليه قبل عشرين عاما، لرفضه تسليم زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن. وبدا المشهد مزلزلا لكل التوقعات السياسية طارحا بشكل أكثر وضوحا ما أسميه بـ"الارتداد الاستراتيجي"، ذلك الذي تنبأت عام 2005 به، والذي بدت آثاره تتراكم كغيوم سوداء في آسيا، وهي "بيئة" هذا الارتداد.
هل أربك المشهد هذا العالم والسياسات والاستراتيجيات الأمريكية والأوروبية التي وضعت قبل عقود من الزمان من أجل السيطرة على مناطق المصالح. لقد حددت خرائط الاستراتيجيين الأميركيين أربعين بلدا تمثل المصالح الأميركية أو ما أسمته بمناطق الديون القومية، ويعني ذلك المناطق التي التزمت تجاهها أميركا بالدفاع عنها، دفاعا عن مصالحها هي.
وأعني بالارتداد الاستراتيجي*، الردة العكسية لخطط الدفاع التي هدفت لتغيير حاضر ما من أجل مستقبل يستوعب الأهداف المتوخاة "المصالح"، وإخضاعه للربط المتفاعل وليس الربط الجزئي والآلي. والارتداد هنا يعكس مسار الاستراتيجية التي اتجهت من منطلقها "الولايات المتحدة" باتجاه آسيا، لترتد مساراتها بنفس القوة ولكن باتجاه آخر ضاربة مُطلِـق الهدف في الصميم، لتنسف كل قواعد مصالحه.
لابد من القول هنا أن الخروج الأمريكي من أفغانستان تم بالاتفاق بين الولايات المتحدة و"طالبان" في المفاوضات التي وقعت بالدوحة في 29 فبراير عام 2020، والتي قضت بـ:
1- انسحاب جميع القوات الأجنبية من أفغانستان في غضون 14 شهرا.
2- تخفض الولايات المتحدة قواتها في أفغانستان إلى 8600 في غضون 135 يوما بدءا من تاريخ توقيع الاتفاق.
3- تسحب الولايات المتحدة وحلفاؤها والتحالف جميع قواتهم من 5 قواعد عسكرية في غضون 135 يوما.
4- إزالة العقوبات الأمريكية عن أفراد "طالبان" بحلول 27 أغسطس 2020 .
5- إطلاق سراح ما يصل إلى 5 آلاف سجين من "طالبان"، وما يصل إلى ألف من سجناء الطرف الآخر بحلول 10 مارس/ آذار 2020 .نسف أحد أخطر الأهداف الاستراتيجية الأميركية التي وضعها جورج كينان عام 1947، وهو هدف "استخدام النفط كسلاح". وينبغي التذكير هنا بأن الولايات المتحدة خاضت حربها في افغانستان عام 2001 من أجل حسم الصراع على رقعة المصالح الاسيوية، منطقة الأعراق المتطاحنة، بين الغرب المتعاظم والروسي التقليدي، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وكان هدفها الرئيس حينها مواجهة التحالفات الإقليمية التي برزت انذاك كمحاور مثل التقارب الروسي-الإيراني، والروسي-الصيني، والروسي-الهندي، دون إغفال الانقلاب الباكستاني وضرورة أفغانستان في القارة الآسيوية، والجمهوريات السوفييتية سابقا والتي تشظت وباتت تشكل أهمية استراتيجية، وبدا بحر قزوين بؤرة لهذه القوى المتصارعة.
وبشكل أكثر دقة هدفت واشنطن حينها إلى :
- السيطرة على منابع النفط في العالم، وإحكام السيطرة على نفط الخليج وإزاحة النفوذ الروسي من منطقة بحر قزوين، وكان أن دعمت من أجل ذلك "المجاهدين" الأفغان في حربهم ضد السوفييت. لقد كانت قناعاتها بأن أفغانستان هي البوابة الشرقية لنفط الخليج.
- استمرار سياسة الاحتواء المزدوج لكل من العراق وإيران، من خلال قاعدة أنجيرلك التركية والقاعدة الأميركية التي أنشأتها في أفغانستان، لتحقيق السيطرة على "الدول المارقة"، ما يمنع تهديد هذه الدول للكيان الصهيوني.
- تهديد "حزب الله" في لبنان، وبالتالي دعم الكيان الصهيوني .
- تهديد الصين من الجهة الغربية، فمن خلال القواعد الأمريكية في تايوان شرقا، والقاعدة الأميركية في لأفغانستان، أملت الولايات المتحدة تهديد قلب الصين من الجهتين الشرقية والغربية، وتكوين سياج آيديولوجي وعسكري يحبط محاولات مد النفوذ الصيني سواء على المستوى التجاري أو الاقتصادي أو السياسي.
لقد بدت أفغانستان عام 2001، ذبيحة جاهزة للتقسيم على موائد الحلفاء، فلم تكن حكومتها الـ"طالبانية" شرعية أو معترف بها دوليا، عدا عن كونها تشكل خطرا أصوليا على المنطقة التي تقع ضمن أهداف الناتو التوسعية. لقد كانت انهيارات مانهاتن في 11 سبتمبر 2001، منطلقا لتلك الاستراتيجية التي بقي الاستراتيجيون الأمريكون يرسمونها عقودا، لتنهار في ساعات مثل بيت من ورق.
ما حدث في أفغانستان كان النتيجية الطبيعية لعملية "فرض الديمقراطية" بالقنابل والصواريخ والجيوش، ولم تستطع أقوى دولة في العالم الصمود أكثر من عشرين عاما في بيئة طاردة لها ولديمقراطيتها المدمرة التي كلفتها أكثر من تريليون دولار والآلاف من الضحايا العسكريين والمدنيين من كل الأطراف، عدا عن تدمير الاستقرار العالمي. وذلك ما أدركه الحلفاء الغربيون الذين حذر الكثير منهم الولايات المتحدة معتبرين أن حروبها "حماقة شائنة"، لكنهم ركضوا وراءها في مستنقعات تلك الحروب.
ما يهمنا الآن أن نتيجة الارتداد الاستراتيجي الذي حصل في أفغانستان، ستكون أكثر وبالا من "طالبان" ككيان منفرد. فخطوات طالبان في أفغانستان تعرّض بنية الأمن العالمي للخطر، خاصة بعد استيلائها على الأسلحة الأمريكية حيث باتت تملك أقوى جيش في المنطقة، وسط تحذيرات من الخلايا النائمة للتنظيم في الإقليم إن لم يكن في العالم. فلدى حركة "طالبان" خلايا نائمة في جميع جمهوريات آسيا الوسطى، بما في ذلك طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان، أو الدول الإسلامية "الشقيقة" التي مولت بطريقة ما الحركة، بل حتى الصين حيث "منطقة شينجيانغ الأويغورية" ذات الحكم الذاتي التي قد تشتعل أيضا.
لقد أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صرخة تحذير لمنع انهيار أفغانستان بعد سيطرة "طالبان" عليها، مشددا على "عدم السماح للإرهابيين بمغادرة البلد ودخول البلدان المجاورة لأفغانستان، بما في ذلك تحت ستار اللاجئين". ووفقا للخبراء الروس فإن اللاجئين الأفغان، يمكن أن يدخلوا أي بلد، وينظموا لاحقا أعمالا إرهابية ويزعزعوا أمن السكان. ولا يمكن بالتالي تجاهل طموحات "طالبان"، التي تتجاوز أفغانستان، فهي ترنو إلى "إنشاء حزام من الدول الإسلامية في آسيا الوسطى"، ولذلك فهم لن يتوقفوا عند حدود البلد.
يقول خبير رابطة المحللين السياسيين العسكريين الأستاذ في جامعة بليخاونف الاقتصادية الروسية أوليغ غلازونوف: "إن الأمريكيين فشلوا، وطاروا بعيدا، أمريكا بعيدة، وبالنسبة لهم سواء. أما نحن وإيران والصين وحتى باكستان وجميع الدول الأخرى، فسيكون علينا التهام طبختهم". ويرى العديد من الخبراء أن الانسحاب الأمريكي كان في حالة من الارتباك وسوء التخطيط، ما سينعكس على مستقبل الوضع، فقد يرحب العديد من الأوروبيين بـ"سيطرة روسيا أو الصين، أو ربما إيران أو باكستان" على افغانستان وضمان قطع تدفقات اللاجئين المحتملة".
ويبدو أن دور الغرب سيتضاءل في أفغانستان اليوم وغدا، كما أنه ليس من الواضح ما إذا كان بإمكان الدول الغربية الآن مواجهة روسيا والصين في أفغانستان من أجل الاحتفاظ بنفوذها هناك جزئيا على الأقل. لقد برزت أهمية أفغانستان اليوم ليس من الناحية الاستراتيجية فقط، بل من الناحية الاقتصادية لتوفرها على ثروات معدنية هائلة كالليثيوم عصب صناعة التكنولوجيا. ويتوقع الخبراء أن تلعب الآن الدور الرئيس في شؤون المنطقة، دول أوراسيا - الصين باعتبارها أقوى دولة اقتصاديا، وباكستان التي تتمتع بعلاقات سياسية قوية مع "طالبان"، وكذلك روسيا وإيران ودول المنطقة، أي دول آسيا الوسطى.
وبغض النظر عما إذا كان الانسحاب الأمريكي باتفاق أو بغير اتفاق، أو كان إنهاء لـ"ملف المحافظين الجدد، وتعديل مسارات الاستراتيجية الأمريكية" مما يبرز في تبريرات المسؤولين الأمريكيين، الذين يواجهون وضعا محرجا مع الكونجرس بحزبيه، إلا أن هذا الانسحاب من وجهة نظري يمثل ارتدادا عن الاستراتيجيات الأمريكية التي سعت طوال قرن من الزمان إلى تثبيت أقدامها في رقع المصالح، لكنها اليوم اكتشفت أن تلك الاستراتيجية غير مجدية وأن الوقت حان لتغييرها، ولو بالخروج المدمر الذي حصل.
لقد كتب الفيلسوف الأميركي (رالف والدو إمرسون 1803-1882) يقول: "إن راديكاليتنا الأمريكية مدمرة وغير هادف، فهي غير محبة، وليست لها أهداف قدسية وبعيدة المدى، إنما تنبع تدميريتها من الكراهية والأنانية في الجانب الآخر".
ترى هل ستنعكس الحالة الافغانية على العراق، ثاني هدف للاستراتيجية الأمريكية في مطلع القرن الحادي والعشرين، والذي يعاني من آثار "ديكتاتورية الديمقراطية" الأمريكية، وهل ستتوقف الراديكالية الأمريكية عن كونها "مدمرة وأنانية"، أم أننا سنبصر مشهدا جديدا مع الوهن السياسي الدولي الحالي والذي يرسم صورة "نظام عالمي بائد".
كاتبة مقيمة في كندا
*ملاحظة : "الارتداد الاستراتيجي" مصطلح جديد للكاتبة يعكس وجهة نظرها