أرض كنعان
أفضل الأعمال الروائية الفلسطينية هي التي أصدرها كتابٌ من خارج دوائر السلطات السياسية.
نصوص لا ترتقي إلى جنس الرواية
عُدت إلى رباعية “أرض كنعان” للروائي والشاعر الفلسطيني المهجري عبدالكريم السبعاوي. كنت قد اطّلعت على اثنتين من الروايات الأربع من المجموعة، لكنّ الطبعة الأنيقة التي أهدتني إياها السيدة كريمته؛ دفعتي إلى البدء سريعاً ومن جديد، وهذه المرة في قراءة العمل كله بتأنٍّ.
والآن قبل الانتهاء من قراءة الروايات الأربع، أكتفي بالقول، إن “العنقاء” الرواية الأولى، فعلت بي ما تفعله الموسيقى بعازف على آلتين، يتقصّى في كل مقطوعة، جودة ما يعزفه آخر، على آلتين من النوع نفسه. فأنا أعرف أن الروايات الأربع، تؤرخ بهذا الجنس الأدبي، لمئة عام من التاريخ الاجتماعي لفلسطين، بأبعاده السياسية. لكنني ركزت هذه المرة على اللغة والتعبيرات والمخيلة التي تستحضر أسماء الأشياء وأنماط الكلام المتداول بفصحى فاتنة مع اضطرار إلى العامية والتبسيط في بعض جمل الحوار.
فأنا لست روائياً لكنني أردت التركيز على جملة الروائي السبعاوي التي اتسمت بالرشاقة التي تؤهل صاحبها لأن يعود إلى الصحافة التي كانت له فيها تجربة قصيرة في بدايات حياته في غزة. ولست هنا بصدد الإفاضة في وصف العمل الأدبي المهم الذي أنجزه السبعاوي، أود تعيين الفارق بين الروائي الذي يحمله إلى الصدارة نظام سياسي دونما إبداع لافت، والروائي الذي يبدع، دون أن تروّج له سلطة سياسية.
فقد مررت بتجربة مشاركة مع روائي سلطة، تسلّم رئاسة تحرير جريدة فلسطينية، ورتب لسبعة من كُتّاب الأعمدة، التناوب على كتابة عمود أدبي في الصفحة الأخيرة، وكنت واحداً منهم. وفوجئت بأن جملة ذلك الروائي، ركيكة وبلا عمق، وحتى طُرفته عندما يتظارف، ثقيلة دم. عندئذٍ أعربت عن استغرابي كيف يُقدم هذا الرجل كروائي، ويُوضع في طليعة الروائيين المنتسبين إلى أجهزة منظمة التحرير. وشعرت أنني لم أخطئ عندما استنكفت عن قراءة شيء له.
وبعيداً عن موضوعه، لاحظت أن الشاعر، عندما يكتب نثراً، تكون جماليات نصوصه آسرة مثلما كانت نصوص محمود درويش ومقالاته. وفي بعض الأحيان مع آخرين، يتفوق نثر الشاعر على شعره. ولكن كيف يستطيع كاتب تنكشف ضحالة جملته كلما كتب نصاً قصيراً، أن يقدم أعمالاً روائية، تتطلب ثقافة ومخيلة منتجة للصور والمشاهد وعمقاً في معرفة الزمن الروائي ومطارح الحدث؟
يمكن لمثل هذا أن يطبع أعمالاً يقول عنها روائية، بينما هي تشبه التقارير الصحافية التي تغطي وقائع لم تحدث، لكن النصوص في مثل هذه الأعمال، لا ترتقي إلى جنس الرواية ولا تقترب من فلسفتها. وهؤلاء ينشرون أعمالاً روائية سطحية، فيما ينذرون أنفسهم للعمل في كنف سلطات تُغدق عليهم وتصادر أوقاتهم فلا يقرأون ولا يتطورون، وتقدمهم في المؤتمرات وتستعين بهم في النقابات والمؤسسات ذات العلاقة بالثقافة، وتطبع لهم أعمالهم. وهذا كله سياق مُجزٍ مالياً، بينما إصدار الرواية لا يدرّ مالاً على كاتبها.
لذا فإن أفضل الأعمال الروائية الفلسطينية هي التي أصدرها كتابٌ من خارج دوائر السلطات السياسية، منذ غسان كنفاني إلى إبراهيم نصرالله. وهذا الأخير وعبدالكريم السبعاوي هما اللذان أنتجا أعمالاً روائية بعمق ثقافي واجتماعي وتاريخي. والاثنان شاعران وكتبا عن فلسطين من خارج أرضها. ولكل منهما ملحمة روائية، كانت عند إبراهيم نصرالله “ملهاة فلسطينية” درامية وتاريخية، وعند عبدالكريم السبعاوي “أرض كنعان” برواياتها الأربع: العنقاء، الخِلّ الوفي، الغول ورابع المستحيل. لكن لنصرالله، مشروع روائي آخر، نأمل أن يشجع السبعاوي على البدء بمشروع روائي جديد.
عدلي صادق
كاتب وسياسي فلسطيني