أشواق ورسائل وقبلات
رباح آل جعفر
أيتها الروابي المترعات بالغلال. أيّتها الجبال المعمّمة بالثلوج، أيّتها الأزهار المبتلّة بالندى، المعمّدة بعطر الخزامى. يا دامات الطين المكلّلة بدخان التنانير عند الفجر. يا بيوت القصب التي تعزف على سقفها الريح. أيّتها البساتين الوارفة تنفح نسماتها العليلة سلاماً وعافية.
أيتها الشفاه الناعمة الجائعة التي لا تشبع من القبلات. يا لهفة الانتظار على مصاطب حدائق العشاق في صباحات غائمة، وكرنة العصفور صوت حبيبتك، يناديك: تعال.. تعال يا طعم اللقاء الأول، يا ورق المماشي الأحمر.. لا تفضحنا أيها الحب.
أيتها الجذور، الطفولة، الذاكرة، الذكريات، الهيولى الأولى، الذات الأمّ. صار الشوق وطناً.
يا عطر تشرين. يا رائحة الأمطار في كانون. يا رائحة الخبز في الفجر. يا عطر الذرة الصاعد من الحقول، حقلاً حقلاً منذ كانت أرضاً بلقعاً لا تجري فيها ساقية. يا نكهة أزهار الدفلى. يا رنّة الأقراط والأساور. يا بكاء الشحارير. أيتها الأغاني العاطفية، والصور التذكارية، والرسائل الضائعة في البريد.. يا أيقونة الوتر الخامس من الإيقاع.. والحرف التاسع والعشرين من الأبجدية. يا مقامات يوسف عمر، وأبوذيات داخل حسن. يا حنين زهور حسين في أغانيها الريفية. يا حادي العيس في أغاني ناظم الغزالي. يا موسيقى العازف في زاوية المقهى. أيتها المقاهي الشعبية في الأماكن السُفلية. يا كلّ أوجاع الأوف، والعتابة، والنايل، والسويحلي، والأبوذية، ودبكات الميجنة، والميمر، والموليّا، والهلابة، وأم مريش، والجوبي، و”كل الهلا بالحدث لو جن كلهن”. يا أبواب المنازل الحزينة ترهقها لهفة الشوق إلى الغائبين. يا شمس الله حين تغرب في قوارب الصيادين.
أيتها الأمهات القرويّات الطيبات المفرطات في الطيبة، اللاتي يجلسن في الضحى يرقعن ثياباً ويخصفن الأطباق من خوص النخل إذا جاء المساء.. أيّها الآباء الطيبون يكابدون تحت وطأة الفقر والمرض والسنين.
أيّتها الأزقّة المترعات بضحكات الأطفال وهم يُعلّقون حقائبهم المدرسيّة بأكتافهم .. أيّتها الكراريس المبلّلة بالماء.. يا زهرات العراق.. يا عيون أطفاله.
أيتها الحسناء البابلية من أور. يا افروديت. يا فينوس. يا عشتار السومرية، وعشتروت الفينيقية. يا دليلة شمشون، يا هريرة الأعشى. أيتها المتجردة. يا زنوبيا بلباس الميدان. يا جان دارك بقميص النوم. يا ماري أنطوانيت. يا ليلى قيس، وبثينة جميل، وعفراء عروة، وإقبال بنت الجلبي في قصائد السياب، ولميعة جبرا، وبلقيس نزار، وفيروز الرحباني، وجلنار ميشيل طراد، والمجهولة ك في غراميات توفيق صايغ.
يا خفق الفساتين حين تهبّ ريح شتائية. يا عشاقا لا يرتوون من القبلات. يا نون النسوة. يا ثغر الحبيبة المصبوغ بالأحمر العنبيّ بحمرة خفيفة.. آخ يا بقايا طبعة الحمرة في الفناجين.
أيتها البلاد البعيدة. يا كلّ حجر من حجارتها، وكلّ قبضة رمل من ترابها، وكلّ قبّة طاهرة من قبابها، وكلّ خوصة سعف من نخلها، وكلّ حبّة قمح من سنابلها، وكلّ نجمة من سمائها، وكل قطرة ماء من دجلتها وفراتها.. يلتفّان بالجناحين المنخفضين على خصر شط العرب، فيحوطان بضفتيه “حوط الحمى”.. وبلادي مجموعة من حروف جميلة: كلّ عين هي عين ماء.. كلّ راء هي روح وريحان.. كلّ ألف هي مئذنة عبّاسيّة.. كلّ قاف هي قارورة عطر.
يا كلّ أرضنا التي تستحق السلام: سلاماً. سلاماً.