أرقام صادمة أم وقائع قادمة ؟
منقذ داغر
8- القيم الأُسَرية-الطلاق
في محاولة لمعرفة مدى التغير القيمي الحاصل في المجتمع العراقي تناولت مجموعة من القيم الفردية التي تخص اتجاهات الفرد العراقي سواء نحو اللدولة،أو الآخرين في مجتمعه أو القيم الأخلاقية الشخصية التي يؤمن بها. في هذه الحلقة سأركز على بعض القيم الأُسَرية التي يؤمن بها العراقيون. لا حاجة لتكرار ان المجتمع العراقي مجتمع محافظ تحتل الاسرة فيه ركناً ركيناً لا في التنشأة الأجتماعية للفرد فحسب بل أيضاً في الضبط الأجتماعي والحاجة للانتماء. ينظر العراقيون، ككل المجتمعات الاخرى، بأهمية بالغة الى الاسرة في حياتهم. مع ذلك فأن العراق مثل بعض المجتمعات الاخرى المجاورة يعطي أهمية أكبر للاسرة في حياته. فمثلاً في عام 2019 قال 97% من العراقيين ونفس النسبة من الاردنيين أن الأسرة مهمة جداً في حياتهم،مقارنة مع 80% من الروس و82% في النمسا و86% في الصين وفقاً لمسح القيم الدولي الذي أُجري وأقوم بالاستشهاد به في سلسلة مقالاتي هذه.
هذه الأهمية الكبرى للاسرة في حياة العراقي تستبطن الكثير من القيم السلوكية التي شهدت تغيرات واضحة خلال العقدين الماضيين. فمثلاً قال 11% فقط من العراقيين ان الطلاق يمكن ان يكون مبرراً لسبب أو لآخر في عام 2004.
ثم قفزت هذه النسبة الى 42% في عامي 2014 و 2019! بمعنى ان نسبة المبررين للطلاق قد تضاعفت أربع مرات خلال عقدٍ واحدٍ من الزمن! في نفس الوقت فان نسبة الرافضين للطلاق قد تقلصت من 88% عام 2014 الى 58% خلال نفس الفترة! ويبدو ان الطلاق كسلوك أجتماعي بات مبرراً من قبل الكثيرين ولم يعد واحداً من التابوهات التي يؤمن بها المجتمع العراقي. وهذا ما قد يفسر حالات الطلاق الكثيرة التي باتت محاكمنا تغص بها ومجتمعنا ينوء من وطأتها.
هنا لا بد لي من الاشارة الى أني كعراقي ينتمي الى جيل الستينات أتمنى ان لا يتحول الطلاق الى ظاهرة أجتماعية مقبولة وشائعة،لكني كباحث أجتماعي أعتقد أن ما يحصل لدينا في هذا الخصوص ليس شاذاً أو غريباً أذ شهدته مجتمعات كثيرة سواء قريبة من ظروفنا أو بعيدة عنها كما تشير أرقام مسح القيم الدولي. ففي الاردن مثلاً قفزت نسبة من يبررون الطلاق من 35% عام 2004 الى 44% (مقاربة للعراق) عام 2019.
كما قفزت نسبة من يبررون الطلاق في امريكا من 58% عام 1984 الى 83% عام 2019 وشهدت المانيا تغييراً مماثلاً من حيث نسبة من يبررون الطلاق. ان المجتمعات البشرية مثل الكائنات الحية التي تتأثر بظروفها المحيطة وهذا التأثر لا بد أن ينعكس على قيم الفرد تجاه مختلف نواحي الحياة في ذلك المجتمع. لذا فأن مقولة “لو باقين مثلما كنا،أو أن الزمن القديم كان أفضل” أو غيرها من العبارات التي تدلل على نستالجيا معينة أو تحاول أبقاء المجتمع بقيمه وتقاليده وثقافته كما كانت قبل عقود تدلل على عدم استيعاب سُنة التغيير التي سنّها الله للبشرية جمعاء. هذا لا يعني أني أحكم قيمياً على الحاضر أنه أفضل من الماضي في نفس الوقت الذي لا أجيز لنفسي ان أقول ان الماضي احسن من الحاضر فكل من الماضي والحاضر هما نتاج تغير طبيعي لا يمكن أيقافه. جل ما نستطيعه كباحثين (وقد سبقني في ذات الاتجاه الاستاذ الرائد علي الوردي) ان ننبه الى التغيرات المجتمعية الحاصلة ونساعد المختصين والمعنيين وأصحاب القرار على التكيف او التغيير أو التطوير لكي لا تنقرض مجتمعاتنا أو تصبح خارج التاريخ من خلال انكارها لسنة التغيير. في الحلقة القادمة سأتناول أرقام أخرى تخص قيم مجتمعية مختلفة.