آذار شهر البلاوي الكبار
ما يتحمله العراقيون من مُزن آذار الكبار هو موضوع هذه المقالة. ولكي نفصل أسباب هذه المحن لا بد أن نعترف بأن زارع أكثرها مرارة هو صدام حسين قاصدا أو غير قاصد.
العراق يعيش في مأزق لا خروج منه
من المصادفات الغريبة أن يكون شهر آذار – مارس أكثر شهور السنة اكتظاظا بالأحداث الكبيرة، خصوصا في العراق ودول جواره.
ورغم أن الغزو الروسي لأوكرانيا بركان سيغير وجع العالم، والعراق أول المُعرضين لشظايا منه قد تأتي من إيران أو سوريا، إلا أن ما يتحمله العراقيون من مُزن آذار الكبار هذه الأيام، هو موضوع هذه المقالة.
ولكي نفصل أسباب هذه المحن لا بد أن نعترف بأن زارع أكثرها مرارة هو صدام حسين، قاصدا أو غير قاصد. وإليكم الحكاية.
في الثامن من شهر شباط – فبراير 1963 حدث انقلاب حزب البعث العراقي بالتعاون مع القوميين العرب العراقيين، ليتبعه انقلاب “شقيقه” حزب البعث السوري في الثامن من آذار، ليبدأ صراع جديد بين البعثيْن معا وبين الراحل جمال عبدالناصر.
◙ مثلما انتهزت إيران وأحزابُها العراقية وميليشياتُها غزو صدام حسين للكويت، فالأحزاب الكردية كانت الأكثر انتفاعا به وبتداعياته المدمرة
ثم في 1970 غدر حافظ الأسد برفاقه البعثيين قادة “انقلاب 8 آذار”، في ما أسماه بـ”الحركة التصحيحية”، ليشتعل اقتتالٌ دامٍ آخر بين بعث العراق وبعث سوريا، وليبدأ مسلسل كوارث ومصائب أخرى متلاحقة على سوريا والعراق والمنطقة، تسبب فيها اصطفاف رئيس نظام “الوحدة والحرية والاشتراكية” السوري حافظ الأسد عام 1980 نكاية برفاقه البعثيين العراقيين مع إيران الخمينية التي كانت تجاهر بتصميمها على احتلال عراق “الوحدة والحرية والاشتراكية”، والزحف منه إلى باقي الدول العربية لإقامة إمبراطورية فارسية جديدة غلفها الخميني بثياب الدين والطائفة الشيعية وفلسطين.
ثم عاد البعث العراقي مرة أخرى إلى الحكم بانقلاب عسكري في 1968. ومن أهم منجزاته إقدامه على توقيع البيان المسمى بـ”بيان 11 آذار” عام 1970 الذي منحت الحكومة بموجبه المحافظات الثلاث التي تقطنها أغلبية كردية الحكمَ الذاتي بما فيه من عيوب ومزالق.
ورغم أن البيان منح الشعب الكردي مكاسب قومية كبيرة إلا أن قادة الأحزاب الكردية لم يكفهم ما تحقق، واستأنفت ميليشياتهم الحرب ضد النظام.
وفي السادس من آذار 1975 وقع نائب الرئيس العراقي صدام حسين مع شاه إيران اتفاقية الجزائر الشهيرة مضطرا، متنازلا فيها لإيران عن جزء هام وحساس من سيادة الدولة العراقية، هادفا منها أن يتوقف الشاه عن استخدام ورقة التمرد الكردي العراقي أداة لزعزعة أمن الدولة العراقية واستقرارها.
وبالفعل، وفور توقيع الاتفاقية توقف الدعم الإيراني للأحزاب الكردية، فهرب الملا مصطفى بارزاني وأولاده وكبار معاونيه إلى روسيا تاركين وراءهم الآلاف من المواطنين الكرد البسطاء الذين صدقوهم وحملوا معهم السلاح لتقتصَّ منهم الحكومة، وتُنزل بهم أشد عقاب.
وقد علق أحد القادة السياسيين الكرد، بزلة لسان، في لقاء تلفزيوني قائلا “إن الأحزاب السياسية الكردية هي سبب وصول العراق إلى ما هو عليه اليوم من حرية وديمقراطية. فلولا استعانتها بإيران في حربها ضد الحكومة المركزية لما اضطر صدام لتوقيع اتفاقية الجزائر. ولولا اتفاقية الجزائر لما دخل صدام في حربه مع إيران الخميني ثماني سنوات بعد تمزيقه لتلك الاتفاقية واستعادته لنصف شط العرب الذي كان قد تنازل عنه لإيران الشاه. ولولا حرب الثماني سنوات لما اضطر لغزو الكويت. ولولا غزو الكويت لما حدث الغزو الأميركي للعراق. ولولا الغزو الأميركي لما تأسست الدولة الديمقراطية العراقية الحالية”، وهلم جرا.
أما الخلل الكبير في “بيان 11 آذار” فهو إكساؤه بالطابع القومي، وليس الوطني الإداري، الأمر الذي أغرى السياسيين الكرد بالتخطيط للسطو على الحكم والموارد، والعمل تحت الطاولة خطوة خطوة.
كما أجّل الاستقلال في علاقات حكومة الإقليم الداخلية والخارجية، دون المرور بالحكومة المركزية، وهو ما جعلهم بعد ذلك يقيمون تحالفات مع دول خارجية منها الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل تحولت إلى معول هدم في جسد الوحدة الوطنية، خصوصا في أعقاب غزو الكويت، وإنشاء ما يسمى بـ”المؤتمر الوطني الموحد”، واستغلال الدعم الأميركي – الإيراني في مؤتمرات المعارضة لتكريس نظام المحاصصة الطائفية والعنصرية مناصفة مع الأحزاب الدينية الطائفية التي أنشأتها إيران.
ومثلما انتهزت إيران وأحزابُها العراقية وميليشياتُها غزو صدام حسين للكويت، فالأحزاب الكردية كانت الأكثر انتفاعا به وبتداعياته المدمرة.
◙ من المصادفات الغريبة أن يكون شهر آذار – مارس أكثر شهور السنة اكتظاظا بالأحداث الكبيرة، خصوصا في العراق ودول جواره
وفي آذار أيضا من نفس العام أعلن صدام حسين قبوله بجميع قرارات الأمم المتحدة، ومنها دفع التعويضات لكل من يدّعي بأنه تضرر من غزو الكويت.
وفي آذار أيضا حدثت الانتفاضة التي يسميها البعض بـ”الشعبانية”، ويسميها البعض الآخر بـ”انتفاضة آذار”، ويسميها نظام صدام حسين بـ”صفحة الغدر والخيانة”، ثم بدأت الحماية الأميركية لإقليم الحكم الذاتي، وحظر الطيران، وما تبع ذلك من كوارث لم تتوقف حتى يومنا هذا، ولن تتوقف في زمن قادم طويل.
والآن، ومنذ نهاية الانتخابات الأخيرة في العاشر من تشرين الأول – أكتوبر من العام الماضي، وحتى آذار الحالي، يعيش العراق في مأزق لا خروج منه، بلا رئيس ولا حكومة.
وبالتدقيق في حالة الانغلاق والفراغ السياسي والإداري الحالي الذي وجد العراق نفسه فيها نجد أن مَن وضع العراق وأهله في هذه المصيدة اثنان، هما علي خامنئي والشخص الذي جعل منه “اتفاق 11 آذار” ملك ملوك الإقليم، وصانع الرؤساء والوزراء والنواب في نصف الدولة الثاني مسعود بارزاني الذي جعل رئاسة جمهورية الإقليم بارزانية، ورئاسة حكومتها بارزانية، يستغل احتياج مقتدى الصدر إلى تأييده ويصر على اقتناص رئاسة جمهورية العراق ليجعلها بارزانية أيضا. والحبل على الجرار.
يقال إن فرعون سئل مرة: من فرعَنَك؟ فقال: ما لقيت من يصدني.
إبراهيم الزبيدي
كاتب عراقي