أبكاني هذا الدعاء
رباح آل جعفر
هذه طائفة مختارة من الأدعية والمأثورات لكبار الزهاد والمتصوفة. وأنا لا أستطيع أن أخفي شوقي القديم ولا حنيني المقيم إلى إعادة قراءة هذا النوع من أدب المعاني الرقيقة والبلاغة الجميلة بدأتها منذ سنوات بعيدة. إنها تجعلني أنفرد بنفسي، أو أنفر إلى عالم كله صفاء ونقاء ومحبة. ثم أن الصحبة مع كتبهم كحامل المسك. إمّا أن يعطيك مسكاً، أو طيباً، أو أن تجد عنده رائحة طيبة.
وابن الفارض أستاذ العشق وسلطان العاشقين يقول قريباً من هذا المعنى:
وإذا اكتفى غيري بطيف خيالهِ
فأنا الذي بوصالـه لا أكتفــــي
وكان أبو الحسن الشاذلي يدعو قائلاً: اللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا.
ومن أدعيته المأثورة: اللهم إنّا قد عجزنا عن دفع الضرّ عن أنفسنا من حيث نعلم بما نعلم، فكيف لا نعجز عن ذلك من حيث لا نعلم بما لا نعلم.
والعارف بالله أبو أيوب المصري يبدأ دعاءه بهذه المناجاة: اللهم يا حبيب التائبين، ويا سرور العابدين، ويا أنيس المنفردين، ويا حِرْزَ اللاجئين، ويا ظهر المنقطعين، إليك توجهنا، وبفنائك أنخنا، ولمعروفك تعرَّضنا، وبقربك نزلنا.
وقال أبو يزيد البسطامي:
الناسُ بحرٌ عميـقْ.. والبُعدُ عنهم سفينة
وقد نصحتكَ فاخترْ.. لنفسكَ المسكينــة!.
وعندما سُئِل عبد الله بن المبارك: مَن الناس؟ قال: العلماء. قيل: فمَن الملوك؟ قال: الزهاد. قيل: فمَن السَفَلَة؟ قال: الذين يعيشون بدينهم!.
وابن المبارك هو القائل: طلبنا الأدب حين فاتنا المؤدّبون.
وقيل لصوفي: ما صناعتكم؟ فقال: حسن الظن بالله، وسوء الظن بالناس.
وفي “أدب الدنيا والدين” أن عبد الله بن سهل حين عاتبوه لكثرة ما يتصدَّق أجابهم: لو أن رجلاً أراد أن ينتقل من دار إلى دار، أكان يُبقي في الأولى شيئاً؟!.
وقيل لبعض الزهاد: ما أبلغ العظات؟ فقال: محلة الأموات.
ولمّا سئل الحسن البصري: كيف ترى الدنيا؟ قال: شغلني توقع بلائها عن الفرح برخائها.
وقيل لأحد المتصوفة: ما لك كلما تكلمت بكى كل من يسمعك، ولا يبكي من كلام واعظ المدينة أحد؟. قال: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.
وفي كتابه “الإشارات الإلهية” نقرأ لمفكرنا الكبير أبي حيان التوحيدي دعاء مؤثراً: اللهم إنّا نسألك ما نسأل لا عن ثقة ببياض وجوهنا عندك، وأفعالنا معك، ولكن عن ثقة بكرمك الفائض، وطمعاً في رحمتك الواسعة.
اللهم إن كانت أعمارنا قاصرة عن غايات حقائق التوحيد والمعرفة، نسألك أن لا ترد علينا هذه الثقة بك فتشمت بنا من لم تكن له هذه الوسيلة إليك.
وكان الفضيل بن عياض “الصوفي من الرعيل الأول” كما وصفه شيخ الأزهر عبد الحليم محمود يردّد في دعائه طويلاً: اللهم ارحمني فإنك بي عالم، ولا تعذّبني فإنك عليَّ قادر. ومن دعاء الشيخ معروف الكرخي: حسبي الله لديني، حسبي الله لدنياي، حسبي الله الكريم لما أهمَّني، حسبي الله القوي لمن بغى عليَّ، حسبي الله الشديد لمن كادني بسوء.
لقد أبكاني هذا الدعاء!.