أين بعد النظر ؟
جليل وادي
لا تدري هل تضحك أم تبكي عندما ترى باعة للفواكه والخضر يتجولون في القرى والأرياف لبيع بضاعتهم المستوردة ؟ بينما كانت محاصيل هذه القرى تسد حاجة السوق المحلية ، وتمتد في أحيانا كثيرة الى الأسواق المجاورة ، ومنها ما كان يصدّر الى خارج البلاد .
وفي زمن الحصار الظالم الذي فرضه المجرمون على شعبنا في تسعينيات القرن الماضي ، لم يكن أمام العراقيين لعبور هذه المحنة الطويلة الا بفلاحة أرضهم ، فلم تبق مساحة فارغة دون أن تزرع بمختلف المحاصيل ، وبخاصة الاستراتيجية منها كالحنطة والشعير والذرة والرز ، ومع ان للحصار لوعاته المتعددة ، لكن الزراعة كانت الحصن الذي خفف من تلك اللوعات بحدود كبيرة .
ومع ان التحديات التي يمر بها العراق في راهنه ليست بأقل من تلك التي تعرض لها سابقا ، الا ان القطاع الزراعي أهمل بطريقة غريبة ، ما جعل شريحة الفلاحين والمزارعين بمواجهة واقع مرير يتعذر وصفه ، وحرم خزينة الدولة من مردودات مالية مهمة ، وقد يعرض المجتمع مستقبلا الى أزمات غذائية خانقة ، بمعنى آخر لا جود للأمن الغذائي في بلادنا .
وأسباب ذلك تعرفونها ، فلو كان للطبقة السياسية انتماء حقيقيا للوطن ، وحرصا شديدا على عدم تركه في مهب الريح ، لكان القطاع الزراعي من أولوياتها بعد أحداث التغيير السياسي مباشرة ، وذلك للعمل من أجل الأمن الغذائي بحدود ما تسمح به الظروف ، وعدم رهن رقابنا بيد الغير ، لكن ذلك لم يحدث ، بل وانتكست الحياة للأسف ، هذا ما جنته علينا الطبقة السياسية التي يفترض أن يكون من أبرز سمات أفرادها بعد النظر الذي يعني حسن التقدير للأمور في مستقبلها ، لكن التجربة كشفت عن انهم لا يبصرون أبعد من أقدامهم ، ولا يصلحون لإدارة البلاد اطلاقا .
فعلى مدى العقدين الماضيين لم نتلمس سياسة زراعية فاعلة لتنشيط هذا القطاع ، وما اتخذ من اجراءات أثبت الواقع فشلها ، وعبرت سياسة الاستيراد عن استهداف واضح للأمن الغذائي ، وركن الاخوان الى مداخيل النفط لإدامة الحياة وحل الأزمات التي تواجههم . وبالرغم من الهزات العنيفة التي أحدثها انخفاض أسعار النفط ، الا ان أهل الحل والعقد لم يتعلموا منها درسا ، ليلتفتوا الى النفط الدائم المتمثل بالزراعة .
أين بعد نظر الطبقة السياسية على اختلاف ألوانها حول تسييس المياه ، وانها وسيلة للمساومة والضغط لتحقيق المصالح ؟ ألم تدرك ان اضعاف العراق مدخله زعزعة أمنه الغذائي ، أليس عيبا أن نفكر بالأمور بعد فوات الأوان ؟ نفكر بالحزام الأخضر بعد أن خنقتنا الأتربة ، ونقترح قانونا طارئا للأمن الغذائي في خضم أزمة عالمية وليس قبلها .
لقد قيل الكثير من الكلام بان دمار القطاع الزراعي يكمن في سياسة الاستيراد ، ويأس الفلاحون من مناشدة الدولة بدعم احتياجاتهم من البذور والأسمدة والمبيدات ، وشكواهم الدائمة من شحة المياه ، وعدم سيطرة دوائر الري على نظام المراشنة ، وانتهاكه من المتنفذين او الذين لا يقيمون للقانون اعتبارا ، وصار الماء لا يكفي سوى لزراعة مساحات ضئيلة لا تتناسب مع أدنى مستوى للحاجة ، كل ذلك يحدث والحكومات عاجزة ، بينما الأمور تتعاظم ويمكن لها أن تنفجر .
ومع ذلك لم نسمع بمؤتمر وطني لمناقشة الواقع الزراعي ، واتخاذ قرارات حاسمة لإيقاف هذه المهزلة ، ربما لدى وزارتي الزراعة والموارد المائية الكثير مما لا يمكن التصريح به ، كالقول مثلا : ان تجارة المواد الغذائية بأيدي متنفذين مرتبطين بالطبقة السياسية ، او جهات مدعوة من دول أجنبية تنظر الى العراق سوقا مغرية لتصريف بضائعها . وأجزم ان البلاد التي تظل حالها هكذا لن يكون لها استقرارا أبدا ، لأن الاقتصاد حاسم في السياسة . فالتقطير علينا بالمياه من دول الجوار ، لا يأتي اعتباطا ، بل سياسة مدروسة لتدمير الزراعة وما يتعلق بها من صناعات ، وما يقوده ذلك الى هجرة رؤوس الأموال المستثمرة بالصناعات الغذائية . عندما يكون السياسيون تجارا فلا تتوقع للزراعة انتعاشا.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.