أحزان الربيعين

بقلم د. ياس خضير البياتي حزيران/يونيو 13, 2022 185

أحزان الربيعين

 

 

د. ياس خضير البياتي

زرت الموصل ثلاثة مرات بعد عام 2003  وفي كل مرة أجدها مدينة خربة وحزينة وكئيبة، دموعها على وجنتها تنهمر باستحياء، ورونق ربيعها في اصفرار فاتح، حيث تحولت خضرتها إلى أشواك يابسة بعد أن كانت تغرق بالنرجس والجمبد وشقائق النعمان وزهور البابونج، ويمتلئ جوها برائحة الأرض الندية، خاصة أيام المطر، حيث مركب الجيوسمين والبتريكور يفوح عطرا طبيعيا على المدينة ليجعلها أكثر بهاء وجمالاً ورونقاً. يكفي أن الربيع كان يزورها مرتين في السنة فتخرج عن قاعدة الفصول الأربعة الثابتة.

قبل أيام كنت في زيارة الموصل بعد زيارة سابقة لها عندما خرج داعش من المدينة بقوة السلاح والإرادة، وكنت أظن أنها بعد تحريرها عام 2017  وزيارتي الثانية لها بعد تحريرها مباشرة أن يستفيق الضمير الحكومي ليكون مُنزّها بأفعاله، وحنونا على شعبه ومدنه من اجل استعادة هذه المدينة جمالها السحري، ويعوّض أهلها مصائب أفعال الإرهاب وجرائمه، وينهض بالجانب الأيمن الذي ابيد أرضاً وشعباً بفعل صواريخ الحرب وأدوات الالة العسكرية العنيفة، ووحشية الإرهاب.

وللتاريخ، فقد كتبت أكثر من مقالة عن الموصل بعد التحرير، وانتصرت لها ولأهلها لأنها تستحق بمآثرها التاريخية وحضورها المشرق البهي، ونبل أهلها وذكاهم وتضحياتهم الوطنية، ليس لأنني من مواليدها، بل لأنني من عشاقها ومن أبناء العراق، مثلما انتصرت كذلك للبصرة والناصرية ولبغداد المولد والانتماء.

وعندما زرتها بعد تحريرها مباشرة كتبت عنها بحرقة عراقية مجردة عن الانتماء والطائفة والقومية، لأنني لم أرى الموصل التي كنا نراها في عصور ربيعها المزدهر؛ رأيتها مدينة نصفها مدمر بالكامل، أشباح ليس فيها أسواق عصرية وجسور وشوارع مبلطة، ولا مستشفيات ومدارس صالحة للبشر. لم أصدق ما رأيته كأنها خارجة عن التاريخ والثقافة والحياة، دمرها الإرهاب مثلما دمرتها الالة العسكرية بعنف مبالغ، واستباحها الأغراب والدول الطائفية تحت شعارات التحرير ومباهج الحقد الأسود.

ماذا تبدل في التاريخ والجغرافيا والإنسان بعد زيارتي الأخيرة التي تزامنت صدفة مع ذكرى احتلالها عام 2014  أي قبل ثمانية أعوام، وبين زيارتي الماضية لها عام 2018   نعم عادت لها الروح بعض الشيء لكنها عودة بطيئة ومملة وحزينة بالجراحات التي لم تندمل بعد. مازال المكان موحشاً وكئيباً؛ مدينة نصف مكانها مدمر بالكامل، والنصف الآخر قرية مهجورة تشبه قرى الخمسينات وربما أتعس؛ ركام المباني والبيوت مازال شاهداً على مأساوية الحدث المزرى؛ إذلال المدينة وأهلها، وقتل روح الأمل فيهم، كماهو شهادة حيّة على سادية الدولة على مواطنيها ومدنها.

يومها قلت: لا تقل لي كيف كانت الموصل؛ ناسها ونهرها وشوارعها وأحياءها ومبانيها، لأنني لم أرى مدينة أخرى لا تشبهها تاريخا، مدينة أشباه أزيلت عنها كل مقومات الحياة، وسلبت منها تاريخها، وطمست معالمها الحضارية. فاختفت أم الربيعين الواقع والحلم، لتظهر على أنقاضها أحياء مدمرة بالكامل مع ساكنيها، وشوارع متهالكة، وتلال من أكداس النفايات وروائح لجثث مازالت تحت الأنقاض، ونسمات لهواء مثقل بروائح المجاري والسواقي (راي اليوم-23  جون 2018)

كان زوج ابنتي، وهو أستاذ جامعي، يؤشر لي بفرح على بعض المباني والمطاعم الجديدة التي تم استثمارها من قبل الأشخاص، ويلفت انتباهي بين فترة وأخرى لبعض الشوارع والأشجار التي بدأ العمل بها. وهو مثل حال الكثير من الموصليين الذين لا يريدون تأذية مشاعر مدينتهم أو التقليل من شأنها لقوة المحبة والانتماء. أما أنا فقد كنت أشيط غضبا وحزنا في داخلي على حالها وماسيها وكوارثها، والعن أباعر السلطة وحميرها وأحزابها على ما فعلوه في هذه المدينة العريقة، وما ينبشون خفاء وعلانية في معالمها وحضارتها لتدميرها وإذلالها.

جاءت الجموع من كل حدب وصوب؛ الحلبوسي والكاظمي والوزراء والنواب للتجول فوق أنقاضها وأحزانها كفاتحين لاستعراض عضلاتهم الإعلامية بطريقة دعائية مكشوفة لأغراض انتخابية أو سياسية. كنا نظن أنهم جاءوا لأعاده الأمل لأهلها، وتحقيق أمنياتهم المؤجلة في بناء مطار الموصل والجسور والمستشفيات والمدارس، والقضاء على الفساد ومافيا السياسة والمال. فلا الطائرات العراقية أقلعت، ولا الأجنبية هبطت في المطار، ولا تحرير مال الموصل ذهب للأعمار.

فما زال المطار نائما يغط بنوم عميق، وشخيره يصل أحياء المدينة، بينما ترى الخراب في الشوارع والمساكن والجسور والمستشفيات حيث عتمة ليلية مرعبة في أكثر شوارعها وحاراتها، ومجاري خربة ومكشوفة توزع رائحة العفونة والفضلات البشرية بالعدل لأهل المدينة. قد ترى شوارع قليلة مبلطة ومعها شتلات زراعية يابسة وحزينة، وجهود بلدية متواضعة، لكنك تشم معها رائحة فساد قوية ظاهرة للعين.

نعم، ربما هناك من يعمل على صعيد المؤسسات؛ المحافظ نجم الجبوري وفريق عمله، وشباب من المتطوعين لكنهم يعيشون تحت وطأة الروتين الحكومي، ومافيات الفساد، وأذرع بعض الجهات السياسية التي لا تريد الخير للمدينة؛ غازات سياسية سامة سببت احتباس سياسي بهدف الطمس والمحو والتهميش، وغازات حاقدة دفينة آخذة في الارتفاع لأيقاف عجلة التنمية والتحديث.

الموصل مدينة خربة، وقرية بائسة، مثل باقي المدن العراقية، لكنها تختلف عنهم بأنها كانت لها ربيعيين في المناخ والطبيعة، فاختفيا وسط ركامات الحرب والإهمال، ورائحة جثث الموتى تحت الأنقاض، ومجاري الروائح النتنة ، وعفونة الأغراب وأطماعهم. لكن الربيع الأبهى والأجمل هو في أهلها وجيناتهم الوطنية، وقوة انتماءهم للمدينة التي خرجت من كل الحروب والحصارات على مر التاريخ ربيعاً من القوة والانتماء.

التاريخ ليس مقصورا على روايته فقط بل يجب تذكره بحكمة لتعلم تجاربه ودروسه، كما هو ليس أمكنة من الحارات والأسواق والجسور، إنما هو وعاء للخبرة البشرية، وخزان معرفة. من يقرأ تاريخ الموصل سيرى إنها قصة كبيرة؛ محن ونكبات وحصار، ومتواليات من الأحزان والإبادة والتهميش. بيوت تهدمت، وجغرافيا تغيرت، وفصول اختزلت، لكن أهلها تاريخ لا يصدأ، وشلالات من عطاء لا ينضب. لذلك لا تيأسوا من الحاضر لأن دروس التاريخ تقول لنا: أن ربيع الموصل في البشر وليس في الأمكنة والحجر.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه