أزمة الأزمة وحزب العراق العظيم
العراقيون تتفرع بهم التوجهات والأفكار إلا أنهم يدينون إلى حزبهم الأم دائما.
الفساد أكبر حزب عراقي
ينتمي العراقيون، في أغلبيتهم الساحقة، إلى حزب واحد. قد تتفرع بهم التوجهات والأفكار والانتماءات، إلا أنهم يدينون إلى حزبهم الأم دائما. وهو حزب يجمع، يا سبحان الله، كل طبائعهم ويمثلها خير تمثيل. كما أنه يجسد تاريخهم المعاصر بنزاعاته واحتراباته الأهلية وأعماله الوحشية وتصفياته الدموية، وكل ما شئت من تلك الوقائع والأحداث والتقلبات والانقلابات التي عرفها العراق منذ تأسيسه ككيان مستقل، أو كدولة حديثة، في العام 1921.
هذا الحزب من دون اسم مع الأسف. والعراقيون ينتمون إليه بحكم الطبائع، والغريزة، وليس بحكم مطالعة “نظام داخلي” أو “منهاج فكري”. وهو الحزب الوحيد الذي لا توجد له مقرات، ولا أمين عام، ولا قيادة مركزية. ولكنه موجود في كل بيت. وهو الحزب الأكثر شعبية على الإطلاق، ولكن لم يفكر أحد حتى الآن، أن يجعله طرفا في “العملية السياسية” ولا أن يتقدم به إلى الانتخابات. ربما بسبب قناعة راسخة، بأنه هو أبو “العملية السياسية” وأمها، وأنه هو البلد، وهو النظام، ما يجعله أعلى وأرفع مقاما من أيّ انتخابات.
ولا تستطيع أن تتعرف على هذا الحزب إلا من صفاته. أنظر فيها، وسترى أنه حزب الجماهير العريضة، وأنه حزب الأحزاب كلها، بمختلف جماعاتها وطوائفها وتياراتها وعصاباتها وميليشياتها ورجال دينها. أنظر فيها، وسترى كيف أنه هو حزب الجميع، ولا أحد سواه.
بصرف النظر عمّا تنتهي إليه سياسات حزبك الصغير، فأنت يجب أن تقبل بها وتمضي بها إلى آخر الخط. لأن حزبك الأم لن يقبل منك شيئا أقل من التضحية بالنفس، بالخطأ والصواب على حد سواء
أولا، إنه حزب “كل شيء، أو لا شيء”. على مر العقود، منذ إنشاء أولى الأحزاب في العراق، طغت الأفكار التي تنهل من هذا المبدأ على مسارات السياسة وعلاقات أحزابها، حتى أصبح من المستحيل أن تحصل على “توافقات وطنية” على ما يسمى “خطوط عريضة مشتركة”. هذا النوع من المفاهيم لم يدخل إلى العراق. وانطلاقا من هذا الواقع فقد فشلت كل “الجبهات الوطنية” وتحولت إلى حروب أهلية وطنية، كلُّ طرفٍ فيها يريد أن يسحق الطرف الآخر.
الجماعات الطائفية المتناحرة، وميليشياتها، لم تأت بأيّ شيء جديد في هذا المضمار. إنها تواصل ما تركه الشيوعيون والقوميون والبعثيون من إرث دموي في العلاقات مع بعضهم، على الرغم من أن كل طرف فيهم ظل يزعم أنه وطني ويبحث عن سؤدد العراق وتقدمه ورفاهية شعبه.
ولأجل المفارقة المفزعة، فإن هذا الزعم صحيح. الشيوعيون والقوميون والبعثيون لم يكونوا أعداء للعراق ولا أرادوا الضرر بمصالح شعبه، ولا كانوا خونة، وما من طرف فيهم إلا وكان مستعدا لكي يعتلي المشانق حبا بالعراق وشعبه، وأملا بتقدمه وازدهاره. إلا أنهم كانوا، في الوقت نفسه، أعضاء في حزب “كل شيء أو لا شيء”، حتى خرّبوا على أنفسهم، وخرّبوا البلاد، وأغرقوها في بحور من سفك الدماء.
هذا الحزب هو نفسه الحزب الذي يسيطر على علاقات الجماعات الطائفية وميليشياتها الآن، ولو بفارق وحيد، هو أن فساد عالم السياسة الذي صنعه احتراب الأحزاب الرئيسية السابقة، أفسح المجال للفاسدين والدجالين والمنافقين والرعاع، ليحلوا محلهم ويتصدروا المشهد السياسي.
ولكنك لن تعدم، حتى بين هؤلاء من يزعم أنه “وطني”. وهناك سبب وجيه لذلك، هو أن “الوطنية” هي الوجه الآخر للإرث الذي تركه الشيوعيون والقوميون والبعثيون لمن سيأتي بعدهم من رعاع. إنها الصفة الوحيدة المقبولة في السياسة. وهي جواز السفر الوحيد لكل التوجهات والمزاعم الأخرى. ولذلك لا تستغرب أن يتبناها حتى التابعون للولي الفقيه، وحتى الذين ينهبون العراق لصالح إيران. فمن دون غطاء كهذا، لن يكونوا أعضاء في الحزب العراقي الأم.
ثانيا، إنه حزب تخوين وتجريم وتكفير. لستَ في حاجةٍ إلى الاعتقاد أن تنظيم داعش في العراق هو أول من مارس التكفير، والقتل على أساسه. الشيوعيون كانوا أول التكفيريين. ولأجل المفارقة المفزعة، فقد كانوا هم أول ضحاياه أيضا عندما تم تكفيرهم هم. ولكن المعنى من ذلك هو أن التجريم والتخوين والتكفير، كان مسارا سياسيا أصيلا، يمارسه الجميع ضد الجميع. وذلك في دلالة أكيدة على أنهم ينتمون إلى حزب واحد.
العلاقات بين الأحزاب والتيارات السياسية ظلت، على مر العقود، مسمومة بمعتقد “أن الأطراف الأخرى هي الشر، وأننا نحن الخير الوحيد”. ولا سبيل بينها لأيّ توسطات. وبطبيعة الحال، فلا سبيل لأيّ معايير براغماتية قد تقصد التقدم نحو خطوة مشتركة. وحتى ولو أمكن السير بها، فإن الخوف من الغدر هو الذي يُغلق باقي الطريق، وليس إمكانية التوافق على خطوة ثانية وثالثة. وحالما تنقضي الخطوة الأولى فإن “التحالفات” تنفضّ على حال أسوأ مما كانت عليه قبلها. حتى لتسأل: أين ذهبت الأحضان والقُبل؟ وكيف انقلبت إلى سجون وأعمال تعذيب؟
ثالثا، إنه حزب “أروح وياك للوحة”، أي أذهب معك إلى حبل المشنقة. وهو ما يعني أن الانتماء السياسي انتماء يسلب المرء كيانه، ويجرده من كل حق، حتى ولو مضت الأمور في الطريق إلى الموت.
بصرف النظر عمّا تنتهي إليه سياسات حزبك الصغير، فأنت يجب أن تقبل بها وتمضي بها إلى آخر الخط. لأن حزبك الأم لن يقبل منك شيئا أقل من التضحية بالنفس، بالخطأ والصواب على حد سواء.
هذا الحزب هو نفسه الحزب الذي يسيطر على علاقات الجماعات الطائفية وميليشياتها الآن، ولو بفارق وحيد، هو أن فساد عالم السياسة الذي صنعه احتراب الأحزاب السابقة، أفسح المجال للفاسدين والدجالين والمنافقين والرعاع، ليحلوا محلهم هذا الحزب هو نفسه الحزب الذي يسيطر على علاقات الجماعات الطائفية وميليشياتها الآن، ولو بفارق وحيد، هو أن فساد عالم السياسة الذي صنعه احتراب الأحزاب السابقة، أفسح المجال للفاسدين والدجالين والمنافقين والرعاع، ليحلوا محلهم
هنا أيضا لا توجد أرض وسط يمكن الوقوف عليها. وأيّ شيء أقل، يعني خيانة. وبحكم الخوف من هذه التهمة، التي لطالما ظلت تتسلط على رؤوس الحزبيين، فقد كان المحتوم عليهم أن يضحّوا بعقولهم قبل أنفسهم وعائلاتهم. وكم تسطّر في هذا الطريق من ضحايا، وكم من أسر تحطمت بسبب أوامر أو توجيهات أو مطالب حزبية. ونادرا ما سأل “الوطنيون” أنفسهم: كيف تبني وطنا إذا لم تبن بيتا؟ وكيف تحرر وطنا، إذا كنت أنت نفسك غير حر؟
رابعا، إنه حزب “البدء من جديد”. فكلما قام به الآخرون يجب أن يُهدم ليُقام على أنقاضه بناءٌ جديد.
لا يجب أن تستغرب كيف أن الغزو الأميركي للعراق أقام نظاما جديدا، على أسس جديدة. النظام التخريبي الأول، أقامه الشيوعيون. وعندما تولى القوميون السلطة من بعدهم، أقاموا نظامهم التخريبي الثاني، وتلاهم البعثيون بنظام تخريبي ثالث، وهكذا. كل واحد كان يريد أن يبنى عراقا على هواه، وليس وطنا للجميع. وأصبحت البلاد امرأة لا يتزوجها إلا واحد. حتى جاء النظام الأخير، الذي هدمه الغزاة ووفر الأدوات للرعاع والفاسدين أن يقيموا نظامهم التخريبي الرابع أو الخامس، ولسان حالهم يقول: لقد امتلكتم الحق بأن تهدموا ما بناه الذين من قبلكم، فلماذا لا يكون لنا حق مماثل؟
وهل تريد أن تنظر إلى ما تنوي فعله الأحزاب المعارضة في العراق؟ إنها تريد أن تهدم لكي تبدأ من جديد.
خامسا، إنه حزب “عليهم يا خوتي عليهم”. والأمر إنما يعني سحقا وسحلا وقتلا وتعذيبا وإعدامات من دون وازع من قلب ولا ضمير. قدرة العراقيين على سحق بعضهم الآخر، هي نفسها قدرتهم على سحق الخصوم الآخرين. يمارسونه بأعين لا ترى شيئا إلا الإبادة الشاملة.
ثلاثة أرباع التاريخ السياسي في العراق الحديث هو تاريخ إبادات شاملة وقبور جماعية وأحكام سجون جماعية. يصطف المدانون بالجملة، فتصدر ضدهم أحكام بالجملة، “من أبوعقال إلى أبوالسدارة”، وسارت العلاقة مع المنافسين والخصوم في هذه الوجهة، على طول الخط.
لقد مضت الحال بالعراق مع هذا الحزب العظيم، على هذا النحو، حتى لم يعد هناك شيء صالح. البلد مهدوم الأركان أصلا، بسبب الانتماء الجماعي إليه. إنه أكثر الأحزاب شعبية. وهو نفسه كل تاريخ العراق الحديث.
علي الصراف
كاتب عراقي