أرضُ السواد.. دارُ البوار

بقلم لويس إقليمس تموز/يوليو 16, 2022 231

أرضُ السواد.. دارُ البوار

 

 لويس إقليمس

ماذا لو تحولت أرضُ الرافدين من سمة أرض السواد إلى صفة أرض البور والبوار والهلاك والدمار والقحل كالصحارى، أو انتقل شعبُها من خانة الشعوب التاريخية في حضارتها وثقافتها وتطلعاتها إلى أخرى متخلفة لا تضع في حسبانها سوى ما تقدمه بيوتات الدين والمذهب والطائفة من قيمٍ وأعرافٍ وعادات تخلى عنها الزمن المتطور وبقيت في عداد “كانَ” منذ زمن بعيد في بلدان عرفت المدنية الصحيحة والتطور التكنلوجي والعلمي والمعرفي.

ما يصيب العراق من مآسٍ بسبب الحرائق المتكررة هنا وهناك وأعمال التجريف الحاصلة بين فترة وأخرى في البساتين لأسباب غير معروفة الأسباب في العديد منها، سوف يقضي على ما تبقى من خضرة البلاد ومتنفسها الوحيد بعد تزايد التوجه الأعمى لإقامة القطع الخرسانية المتراكمة بصفة مولات ومشاريع غير منتجة في أية مواقع فارغة تتجه إليها أطماع الأشرار والمتنفذون في مؤسسات الدولة من أحزاب وأتباعها، بحيث صارت هذه الكتل الكونكريتية المتكررة مثار سخرية المواطن وأصحاب الذوق الرفيع والحريصين على إبقاء رونق المدن العراقية بقدر ما يستطيعون، وذلك رحمة بالأجيال القادمة. فتكرار مثل هذه النيران المستعرة في مكانات عديدة، وآخرها حريق غابات الموصل، إذا ما أُضيفت إلى منظر تجريف البساتين في مناطقها الجغرافية المعروفة سوف يحيل البلاد إلى أرضٍ بور هالكة بسكانها وفضائها لا محالة. فالمناظر مؤلمة حقًا وتدمع لها الأعين وتتحسر إزاءَها القلوب لدى مشاهدتها، ما سيؤدي إلى تصحّر ما تبقى من مساحات قابلة للزراعة وتعرّض البلاد إلى كارثة بيئية مجهولة المصير في حالة تباطؤ الجهات المعنية بمعالجة الواقع المزري بشتى الوسائل والطرق المتاحة وعدم ترك الحبل على الغارب مع دولتي الجوار المعنيتين. فهناك وسائل اقتصادية مؤثرة يمكن أن تأتي أُكلَها في الضغط على كلٍّ من إيران التي يخشى الولائيون في السلطة التحرّش بها، وكذلك تركبا التي تهمين على سوق العراق وتشكل مع إيران كفتي العراق الاستيرادية والاستهلاكية بلا منافس.

قبل أيام طلع علينا تقرير أو منشور خبري لشخص بيئي مسؤول في مدنية البصرة الفيحاء يشير إلى مقتل أو هلاك أكثر من ثلاثة ملايين نخلة في شط العرب في هذه المدينة العريقة، سواء إبّان حرب الخليج الأولى أو ما بعد الغزو الأمريكي عبر تجريف مساحات شاسعة لاستغلالها في مشاريع سكنية عشوائية قانونية أو خارج نطاق القوانين البلدية، ما أدّى إلى تراجع إنتاج التمور بصورة كارثية وخلق واقع بيئي سيّء للغاية.  فقد شاع استغلال واقع الأراضي الزراعية بتحويل صنفها من زراعية إلى سكنية في ظل غياب واضح لأية معايير مدنية ومعمارية وتخطيط حضري بسبب ضعف القانون وأدواته التنفيذية الموازية للضعف القائم في مؤسسات شبه الدولة منذ سقوط البلاد بأيدي الغازي الأمريكي وتسليمه لجماعات لا تمتُّ معظمُها لأية مسحة وطنية وفي غياب واضح لسلطة الدولة. وهذه كارثة وطنية وبيئية تتحمل نتائجَها وظروفَها الحكومات المتعاقبة قبل وبعد السقوط المأساوي للبلاد، سواءً نتيجة الحروب المدمّرة التي حكمت واقع البلد السياسي في حقبة الثمانينات ودمغت النظام السابق بالتسبّب بها، أو ما بعد زوال هذا الأخير واستلام السلطة من أطرافٍ ادّعت المعارضة الوطنية والمناداة بضرورة التغيير والإصلاح قبل استلامها السلطة. بينما تحوّلت هذه بمعظمها إلى غولٍ كاسرٍ ووحشٍ طامعٍ بالبلد وثرواته عندما سنح لها الغازي الأمريكي بفرصة فتح أبواب خزائن البلاد والغرف منها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً حتى هذه الساعة عبر منظومة سياسية فاشلة اتخذت أدوات الفساد المختلفة سبيلاً لديمومة سطوتها وشرعنة سرقاتها ونهبها للمال العام والتغطية على بعضها البعض بسلوك الطمطمة والتغافل والتمادي.

رئة الموصل تلتهب

يوم الأربعاء الموافق 29 حزيران 2022 شهدت منطقة الغابات الموصلية، رئة المدينة الرئيسية، حريقًا هائلاً التهمَ مساحةً شاسعة تربو على 80 دونمًا مزروعة بأنواع الأشجار مثل اليوكالبتوس والصفصاف والصنوبر والدردار والاسبندر وغيرها من الأصناف التي تتحمل أجواء المدينة. ويرقى تاريخ إنشائها إلى عام 1954 بحسب البعض بمساحة أولية لا تزيد عن 10 دونمات. ثم ما لبثت أن امتدت مساحتها لتصل إلى ما يربو على 900 دونم في الجهة الملاصقة لنهر دجلة الخالد في الساحل الأيسر. وأهالي المدينة لا تنسى ذاكرتُهم أهمية هذه المنطقة في احتضانها وزوارهم بين ظلال أشجارها الوارفة باتخاذها من أجمل المناطق التي يرتاح فيها أهاليها. فقد كانت ومازالت خير متنفسٍ ترفيهي لأهالي مدينة الحدباء ولزوارهم، وخاصة لطالبي الدراسة ممّن كان يطيب له مراجعة دروسه وتحضيرها في كنف اشجارها الباسقة أيام الصيف اللاّسع الحرارة بسبب ندرة أجهزة التكييف في الكثير من بيوتات المدينة في فترة السبعينات وما قبلها بصورة خاصة.

اطراف متنفذة

إزاء هذا الحادث المحزن، برزت لدى البعض شكوكٌ بكون الحادث مفتعلاً من أطراف وجهاتٍ متنفذة لها أطماع باطنية مضمرة ضن محاولات لتجريفها وتحويلها إلى فرص استثمارية للسكن وأهداف أخرى غير معلنة. وهذه إنْ تأكدَت التحقيقات في حالة إجرائها بصور مستقلّة ودون ضغوطٍ جانبية أو سياسية أو وجاهية، فإنها تعني كارثة بكل معنى الكلمة. فالسعي الحثيث من أطرافٍ مجهولة الهوية دائمًا لإنهاء حياة ما تبقى من أرض السواد سوف يقضي على رئة البلاد المتبقية. فهذه البقايا الخضراء الفقيرة الهشة في ضوء مثل هذه المحاولات الإجرامية من بشرٍ لا يستحقون الحياة ولا الارتواءَ من مياه النهرين الخالدين ولا استنشاق هواء بلاد الحضارات، تصارعُ اليوم حيتانَ الفساد مثلها مثل الشرفاء ممّا تبقى منهم من ندرة من حاملي مشعل التراث والعلم والثقافة والوطنية الحقيقية وغير المزيّفة التي يتهافت الادعاءَ بها مَن فتح الغازي الأمريكي الأبواب لهم لتدمير البلاد وإنهاء ما تبقى فيها من حياة ومياه وهواء وتسليمها أرضًا بورًا للأجيال المسكينة التي لم تولد بعد. فالبلاد اليوم، تصارع الفساد المستشري في أروقة مؤسسات الدولة ووسط زعامات السلطة وأتباعهم في كفّ، وتقارع أرباب الجرائم وأشكال الإرهاب ومروّجي المخدرات من جهة أخرى. في حين ليس لها حولٌ ولا قوة إزاء حالة الفوضى الخلاّقة القائمة في المجتمع من تنامي سطوة أتباع الدولة العميقة وتغطية الساسة والمتنفذين على مجاميع المشاغبين وأرباب الجريمة في القتل والخطف وسيادة العرف العشائري وعدم القدرة على كبح جماح السلاح المنفلت وحصره بيد أجهزة الدولة المعنية. هذا، ناهيك عن فقدان السيطرة على أشكال الرشى التي تُمارس في دوائر الدولة، المدنية منها والعسكرية والأمنية.

مع الاستمرار بانزلاق الأوضاع إلى المجهول بسبب صراع زعامات السلطة وتقاطع المكاسب وتنوّع المصالح التي تحول دون تشكيل حكومة قوية قادرة على استتاب الأمن وانتشال الاقتصاد من الهاوية وإهمال دور القطاع الخاص الذي يُعدّ العمود الأساسي في دعم اقتصاد أيّ بلد والتراجع في الإنتاج الزراعي والصناعة والخدمات التربوية والعلمية وما سواها، سوف تبقى الدولة عاجزة عن تحقيق إصلاحات جذرية في العملية السياسية المعطّلة. كما سيعمل التراخي والفشل في تنفيذ القانون بسبب ضعف أداء أجهزة الدولة القضائية والتنفيذية على تدمير العقلية العراقية وعلى تقويض قدراتها في صدّ الخارجين عن القانون الذين في مجملهم يتذرعون بالاحتماء بجهات متنفذة في أجهزة الدولة ومؤسساتها وأحزاب السلطة على السواء. وهذه الحالة تنذرُ بسيلٍ هائلٍ من المشاكل والمصائب والأزمات التي ظهرت بعضُ تباشيرها السلبية عبر مظاهرات وأعمال قطع طرق وعمليات قتل وانتحار وطلاق وكلّ ما يخطر ولا يخطر على البال. فعبارة “قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق” قائمة في صورتها وبشاعتها في أي ظرفٍ وايّ وقت بسبب تراجع الأعمال والوظائف في القطاع الخاص وتوجه غالبية العاطلين عن العمل للمطالبة بالتعيين في الدولة ضمانًا لقوتهم ورزقهم. فالنيران التي أحرقت غابات الموصل والتهمت أجزاء كبيرة من مساحتها في هذه المدينة المعذّبة والأيادي التي عملت على تجريف البساتين والمواقع الخضراء هنا وهناك، لا تقلّ في فظاعتها عن نيران الفساد التي ضربت البلاد وأهلَها منذ تسليمها من قبل المحتلّ الأمريكي إلى غير أهلها من الطامعين بها وبثرواتها وتاريخها وحضارتها وإرثها. في الحصيلة، يمكن إعادة ما دمّرته الأيادي المشاغبة والمعاول الميكانيكية والأفكار المتعصّبة والعقول المتزمّتة والكروش السارقة لحقوق الشعب بالصحوة الوطنية القائمة في الدهاليز وبالتوازي مع المطالبات الصادقة بالتغيير القادم لإعادة الخطأ إلى الصواب وزراعة الأمل من جديد وتحقيق الصورة الناصعة لشعب الحضارات بجهود الطيبين من أبناء الوطن الأصلاء والخيّرين ممّا تبقى من الوطنيين وأصحاب الضمائر الحية. أمّا غابات الموصل المندثرة بسبب هذه الجريمة المفتعلة ومصيرُها، فسيكون للشعب العراقي وقفة رجالٍ في إعادة زراعتها بأشكالٍ وألوان من الأشجار والنباتات ضمن حملات وطنية بدأت تباشيرُها من أبناء المدنية بنداءات هادرة لإعادة تشجيرها. كما تفاعلت معها نداءاتٌ وطنية مؤازرة في عددٍ من المدن العراقية الأصيلة لتعود هذه الرئة الموصلّية متألّقةً وزاهية كما عهدناها. فأرضُ السواد لا يمكن أن تتحول إلى دارٍ للبوار والهلاك والموت، مثلما لا يرضى محبوها الصالحون الأوفياء بتركها فريسة سهلة دائمية للفاسدين والطامعين. ولا بدّ للشارع الوطني أن يصحو قريبًا من سباته بعاصفة كاسحة شبيهة بثورة تشرين التي أزاحت المحتل قبل أكثر من قرن ومهّدت للحكم الوطني الذي نأمل عودته في قريب الأيام لتنهي البلاد أتعس حقبة لمنظومة حكمٍ فاسدة اتخذت من المحاصصة والتوافق والتشاركية في المكاسب والمغانم والمصالح والسلطة والنفوذ والجاه سبيلاً للحكم وفرض المذهب والقومية وليس الكفاءة والجدارة والحرص الوطني!

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه