"بطائن الإدراك" نصوص صوفية تعيد فهم العالم

بقلم أحمد فضل شبلول آب/أغسطس 07, 2022 142

"بطائن الإدراك" نصوص صوفية تعيد فهم العالم

هدى عزالدين محمد شاعرة تطل على عالمها الداخلي بدهشة.

رؤية مختلفة باطنية للعالم

مرت قرون منذ ظهور الشعر الصوفي واحتلاله مكانة أدبية ودينية وثقافية هامة في بلاد فارس وشبه الجزيرة العربية لينتشر إلى مختلف أرجاء الوطن العربي، ويبقى إلى اليوم مصدر تجديد هام شكلا ومضمونا، وهو ما حاولته الشاعرة المصرية هدى عزالدين محمد في كتابها الأخير.

احتوى ديوان “بطائن الإدراك” للشاعرة هدى عزالدين محمد على تسعة وخمسين نصا أدبيا، هي نصوص أقرب إلى روح الشعر والبوح الصوفي، وهي تذكرني بنصوص مولانا جلال الدين الرومي في “المثنوي” ذات الرؤى الصوفية والأبعاد الفلسفية العميقة والمتأملة في الذات الخالقة ومخلوقاتها، حيث يتجلى الله لخلقه في كلامه ولكنهم لا يُبصرون.

إن الرؤية المتعمقة لقصائد الديوان تتجاوب مع التفسير الباطني للأشياء وللعالم، وعنوان الديوان “بطائن الإدراك” يشارك في هذا التصور أو في هذا التفسير. فـ”بطائن” جمع بِطانة، والبطائن هي الدواخل، ومنها العقل الباطن، أو اللاشعور أو اللاوعي، وهي مكان الأسرار والاختباء النفسي. وباطن الجسم: داخله، وبواطن الأمر: خفاياه، أو وجوهه غير الظاهرة.

والباطِن: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الذي لا يُحس، وإنما يُدرك بآثاره وأفعاله، والذي لا يُعلم كُنهُ حقيقته للخلق، والعالِم ببواطن الأمور والمطلع على حقيقة كل شيء.

ومن التفسيرات أيضا أن البِطانةُ (وجمعها بطائن) هي ما يُبطن به الثوب، وهي خلافُ ظِهارتِه. والبِطانةُ هي السريرةُ، وأيضا البِطانةُ صفِي الرجل يكشِف له عن أسراره. وفي سورة آل عمران (آية 118) “يا أيها الذين آمنُوا لا تتخِذُوا بِطانة مِن دونِكُم”. وبِطانةُ الرجُلِ: أهلُهُ وأقرِباؤُهُ. ونسمع أحيانا تعبير “بِطانة السوء”.

أما الإدراك فهو الفهم والوعي، ودرس مُدرك أي درس يُدركُ مع فهمِ معناهُ، وفلان مُدرِك لِلأُمُور أي فاهِم لها، واعٍ بِها. وفي علم النفس “مُدرك ذِهنِي” أي موضوع يُدرك مع فهم معناه بما يميزه من غيره. وفي الفلسفة والتصوف، موضوع الإدراك لا يستند في وجوده إلى شيء بالذات.

الديوان لا يسلم نفسه بسهولة للقارئ فهو يحتاج إلى قارئ خاص خاض في غمار الصوفية وثقافتها ودلالاتها

الالتحام بالصوفية

إن تلك الرؤية – بعد تفكيك عنوان الديوان “بطائن الإدراك” – ترى أن النصوص التي تقدمها هدى عزالدين هي رؤية باطنية للعالم، وفي هذا تشترك مع رؤى المتصوفة، ولكن من خلال منظورها الذاتي والروحاني والنفسي واستعدادها للصعود في مدارج الإدراك أو مدارج السالكين.

 لذا نرى أن الذات الشاعرة تطل على الداخل أكثر من إطلالاتها على الخارج، وقد تكون الرؤى الداخلية أو الباطنية رؤى سريالية ولا معقولة، ويتضح هذا في أول سطر من قصيدة “بطائن الإدراك” التي تفتتح بها الشاعرة نصوصها التسعة والخمسين، حيث تقول (ص 7) “ما أنا غيرُ وهمٍ رسمته ريشةُ السريالية”. وتقول (ص 9) “تهتك خيالي ونسج نصف رؤيةٍ فلسفية”. وتقول في (ص 60) “سريالية تفتح للواقع بعض خيالٍ”، بينما تقول (ص 105) “اللامعقول قام من المكان المتسِخ مسح شارعه من العنوان التالي”.

وتكثر مفردات العشق والعاشق والعاشقين في النصوص التي أمامنا. ويرى بعض المتصوفة أن العلاج الوحيد لحرص الدنيا أن تكون عاشقا، فإن العشق هو الذي يمزق ثياب المادة ثوبا بعد ثوب، ليرتدي أثواب الروحانية حتى يبرأ من العيوب. ومن العشق يعرجُ هذا الجسد الترابي ويسمو إلى الأفلاك.

والشاعرة في إطلالاتها الخارجية تُطل على المعالم والأماكن التي تؤكد انكفاءاتِها الداخلية أو الباطنية، مثل حركة الطواف والسعي (وهي حركة خارجية) ولكن الذات الشاعرة تتساءل (ص 114) “متى الطواف والسعي؟/ كي نسعد بثوبه الأحمر”.

إن حركة الطواف والسعي هي حركة الوجود، بل إن الحركة هي الوجود، والسكون هو العدم.

وتنفي الذات الشاعرة في تلك النصوص كونها رابعة العدوية، فتقول (ص 53) “ما أنا رابعة العدوية”، غير أنها (ص 57) “لا تريد إلا الله”. وهي على ذلك تريد طريقا للعشق الإلهي غير الطريق التي سلكتها رابعة العدوية شهيدة العشق الإلهي.

النصوص في الكتاب هي نصوص نثرية تفتقد التفعيلات الخليلية، غير أن التفعيلة أحيانا تفرض نفسها

وتلعب الكاتبة على بنية التضاد في سطورها مثل قولها “ضحِك البكاء” (ص 7). وفي نص “أنفاس محتلة” تقول “أمارس صدقي بمنتهى الكذب” (ص 14). وقولها “خوف وطمأنينة” (ص 18) و”صدقت الأكذوبة” (ص 19) بل إن حركة الكون المقسمة بين الحركة والسكون، ما هي إلا بنية تضاد ثنائية، فالحركة تعني دائما الحياة، والسكون يعني العدم في نظر أغلب الفلاسفة. ولقد قررت الذات الشاعرة أن تتحرك أي أن تحيا في رحاب العشق الإلهي.

يقول ابن عربي “من أوصاف المحبة أن يجمع المحب في حبه بين الضدين، ليصح كونه على الصورة لما فيه من الاختيار، وهذا هو الفرق بين الحب الطبيعي والروحاني، والإنسان يجمعهما وحده”.

ولعلنا نعرف العلاقة الوثيقة التي ربطت بين جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي، والذات الشاعرة هنا لا تغفل هذه العلاقة، فنجد أن كلمة شمس تتكرر كثيرا في نصوصها الرامزة.

إن شمس التبريزي كان درويشا جوالا يجوب البلاد والأقطار كعابر سبيل ويلتقي بالناس، وخاصة أصحاب الخطيئة أو أصحاب الكبائر أو البغايا والسكارى والفقراء، فهم الذين يستحقون منه الرثاء والدعاء والهداية، وليس المتدينين والفقهاء والأغنياء، الذي دسوا له، وحاولوا القبض عليه ومحاكمته، غير أنهم لم يتمكنوا، فلجأوا إلى قتله عن طريق أحد أبناء جلال الدين الرومي.

وتقول شاعرتنا هدى عزالدين، وكأنها تصف شخصية التبريزي (ص 48 – 49) “وأنا عابرُ سبيل في رحاب إيمانك/ متصوف يخاف الله”.

وتقول (ص 82) “أراك بعينٍ بلا جسد/ بنظر شمسٍ تحترقُ/ نار أشعلها البخل اليتيم”.

كما أنها تستخدم تعبير “شمس الهوى” في قولها “أيتها النافذة عيناك ضوى لها برق خاطف من شمس الهوى/ ليتك معي أيتها الجميلة”.

ولا يخلو “بطائن الإدراك” من الحكمة، مثل قولها “لا ترياق للحزنِ غيرُ الحب” (ص 17). و”عقربُ النجاح لا يشرب السم” (ص 109).

هنا نلاحظ العلاقة بين اللفظ والمعنى، والتعبيرات والأسرار، إنها تماما مثل العلاقة بين الجسد والروح. فالجسد بلا روح مجرد جثة هامدة لا يتأتى منها شيء، وآثار الروح ظاهرة في كل حركاته وسكناته.

دلالات كثيرة

النصوص على النحو الذي نراه هي نصوص نثرية تفتقد التفعيلات الخليلية، غير أن التفعيلة أحيانا تفرض نفسها فرضا على الشاعرة فلا ترفض استضافتها، مثل قولها (ص 65) “سمِعنا لسان الرياء/ يزن/ خلية نحلٍ”.

فنحن هنا أمام تفعيلة “فعولن” الخليلية التي تنتسب إلى بحر المتقارب.

بل أحيانا تلجأ الشاعرة إلى التقفية مثل قولها في القصيدة نفسها (عسل مر .. ولا تضر).

في طريقنا لاكتشاف معاني العشق الصوفي في ديوان “بطائن الإدراك” نجد الكثير من العبارات الصوفية التي تغلف الكون بالعشق والخير والجمال، مثل قولها (ص 67) “يدُ الخيرِ زرعت الورد ببستان العشق”. وتقول (ص 81) “جنتي بين الضلوع”. وتكتب (ص 101) “وها هو القلب بين مجالس العاشقين يشكو اللقاء الأول”، وفي (ص 107) تقول: “لا جواز سفرٍ إلا الحب”. وتحذر في (ص 107) من رأس الدهاء الذي يبيت على وسادة الهدنة.

وللأرقام تفسير باطني، وللحروف والألوان وفصول العام وقفات صوفية وعشقية في هذا الديوان عالي القيمة.

سنجد من الأرقام وتمييزها “ثلاث أفكار”، و”نُظُم عشرة”، و”أربعة أجنحة”، “خمس وخمسون”، و”الذكرى الثانية”، “أنا عامُها الثاني” و”سبعة أسئلة”، و”نبضة واحدة”، و”ثلاث إناث وقاتل”، و”بضعة أمتار”، و”رسالة واحدة”، و”ألف ألف تائهة تلد البنين”، و”عد العمر أرقاما لا يستجيب الصفرُ من حياديته”، و”ثلاث أفكار أفقية برأس الجنون”، و”ثلث ساعة من وقت العقل” (أي عشرون دقيقة)، و”الثالثة بين اثنتين”، وغير ذلك من أرقام، أو ألفاظ توحي بالأرقام وكسورها، مثل “نصف قلم”، و”نصف يقين”، وغيرها.

ديوان "بطائن الإدراك" لا يسلم نفسه بسهولة للقارئ العادي، فهو يحتاج إلى قارئ من نوع خاص

بعض هذه الأرقام له دلالات صوفية مثل الرقم واحد، فهذا الرقم يشير إلى الواحد الحق وهو الله تعالى، والواحد الغوث قطب الأقطاب غوث المريدين. أما الرقم ثلاثة، فرقم ذو دلالة خاصة في القسم، وفي الركوع والسجود، وأيضا في الطلاق، وما إلى ذلك. أما الرقم أربعة فيشير إلى أركان العالم الأربعة – أو الأجنحة الأربعة كما ترى الشاعرة – وهي: الشرق والغرب والشمال والجنوب. ويرى ابن عربي أن الشيطان يأتي الإنسان من جهاته الأربعة (اليمين والشمال والخلف والأمام) وقد أمر الله تعالى الإنسان بأن يقاتله من هذه الجهات وأن يحصن نفسه بما أمر الشرع حتى لا يجد الشيطان إليه منه سبيلا.

وهكذا نرى للأرقام دلالات خاصة في ديوان “بطائن الإدراك” الذي احتفل أيضا بالحروف على إطلاقها، أو ببعض الحروف دون تعيينها، مثل قول الشاعرة “حصن قلبك ببعض من حروفي” دون ذكر هذه الحروف. و”تعالي تصفحي جبين الحروف بأناملك الناعمة”.

وهي في الوقت نفسه تحتفل بحروف خاصة مثل النون والواو، والدال في قولها “وما كتب الحرفُ سوى اسمِك/ النون ساكنة ثوبك/ الواو عطف دثر الشتاء/ الدالُ دلال وشموسُ دفء”.

يقول محيي الدين بن عربي عن الحروف “إن الحروف أئمةُ الألفاظِ/ شهِدت بذلك ألسنُ الحفاظِ”.

ولا يخلو الديوان من إشارات إلى الألوان، مثل اللون الأزرق في قولها “زخات من مطر أزرق”، واللون الأخضر في قولها “لكم من يد التراب حفنة خضراء”، واللون الأحمر في قولها “افرشي مهاجع الخيال بزهور ثغرك الأحمر”، و”الأسوار تحيط قلاعي الحمراء”، والأصفر في قولها “لا يستطيع وجهك الأصفر أن يتزين بأحضان اليقين”، والأسود في قولها “رأس بنقاب شفيف أسود يحمل ملامح غريبة لمن يريد الرؤية”، وأحيانا تستخدم كلمات أخرى لها دلالات لونية مثل “الزمرد”، في قولها “الزمرد يسجد لرأس التمرد على بعد خطوةٍ من أرض الكِبر”.

إن ديوان “بطائن الإدراك” للشاعرة هدى عزالدين لا يسلم نفسه بسهولة للقارئ العادي، فهو يحتاج إلى قارئ من نوع خاص، قارئ خاض في غمار الصوفية وثقافتها ودلالاتها ومعارجها، ليستطيع التفاعل مع تلك القصائد التي أراها أيضا ذات ذوق خاص، يختلف عن قصائد ابن الفارض ورابعة العدوية ومحيي الدين بن عربي والحلاج والنفري وغيرهم من أقطاب الصوفية.

أحمد فضل شبلول

كاتب مصري

قيم الموضوع
(0 أصوات)

صحيفه الحدث

Facebook TwitterGoogle BookmarksLinkedin
Pin It
Designed and Powered By ENANA.COM

© 2018 جميع الحقوق محفوظه لوكاله الحدث الاخباريه